محمد المحمود
هل يمكن أن يجد هذا العالم العربي له مخرجا من تأزماته المزمنة خارج سياق الحل/ المسار الليبرالي؟ بل هل يمكن أن يكون ثمة “إنسان عربي” ـ وفق شرط الإنسان الحديث ـ خارج هذا الحل/ المسار الذي يصوغ معالم الإنسان المعاصر في كل مكان على ظهر هذا الكوكب الذي يبدو أنه ـ في مجمله ـ يتعولم ليبراليا بوتيرة متسارعة؟
ومن جهة أخرى؛ هل يمكن أن تكون ثمة تنمية/ نهضة عربية حقيقية لا تضع “الإنسان الفرد” محورا أساسيا/ جوهريا لحراكها الذي يرفع ـ بالضرورة، وبالاضطرار ـ شعار الإنسان؟
منذ قرنين تقريبا، منذ المحاولات الأولى لمحمد علي باشا في مصر؛ والعالم العربي يحاول خوض معركة التنمية التي يُفترض أن غايتها الإنسان من مبدئها إلى منتهاها. فشلت تلك المحاولات على تواضعها، وجاء الاستعمار؛ ومن بعده الانقلابات العسكرية التي أجهضت كل ما كان في البدايات من إيجابيات. ولعل أهم ما ميّز كل تلك المحاولات الفاشلة، أو الواعدة التي انتهت بالفشل أنها انطلقت ـ أو زعمت أنها تنطلق ـ من العموم إلى الخصوص، من الكلي إلى الجزئي، من المجموع إلى الأفراد؛ فكانت مجرد شعارات لا تجد مصاديقها في الوقائع العينية، أي في الأفراد من حيث هم التمظهر العيني/ الحقيقي للوجود الإنساني.
في العصور العربية الحديثة التي يمكن أن يطلق عليها ـ بكثير من التجاوز ـ مسمى “الحقب الليبرالية” كانت حرية التعبير من أهم ملامحها ودلائلها
لا شك أن جدلية الجماعة والفرد؛ من أين يبدأ التغيير، هي جدلية واسعة النطاق في الفكر الإنساني عموما، وفي الفكر الغربي خصوصا. لكن، وفي كل الأحوال، أو في كل النتائج النهائية، ثبت ـ بمنطق المنتج النهائي الواقعي ـ أن كل بداية لا تضع الفرد الحر مرتكزها الأساس هي بداية ستنتهي بالتيه الشعاراتي، ومن ثم؛ بالإفلاس.
بوجود أفراد أحرار (يستحيل وجودهم دونما فضاء ليبرالي) منتجين/ فاعلين إيجابيا يتحقق الخير العام، أي يتحقق من خلال الواقع الإنساني الملموس: الوقائع الإنسانية/ الأفراد في الواقع؛ لا من خلال التعالي على هذا الواقع/ على هؤلاء الأفراد بالشعارات العمومية، وهي التي لا يمكن قياس محصولها في النهاية إلا من خلال المتعين الفردي.
إن جدلية الفرد والجماعة، التي يضع الليبراليون الفرد في محور تفاعلاتها، جديرة بأن تخلق مصلحة المجموع من خلال مصلحة الفرد. هذا ما أكدت عليه الفيلسوفة الألمانية/ حنة أرندت بقولها: “تبدو فلسفة الليبراليين، والتي تؤول من أجلها جماع المصالح الفردية إلى معجزة الخير العام، عقلنة لعدم الاكتراث التي تدفع به المصالح الخاصة دون اعتبار للخير العام” (أسس التوتاليتارية، ص74). فليست الفردية الليبرالية أنانية حتى وإن بدت كذلك، بل حتى وإن اشتغلت على هذا الأساس؛ لأن الفرد في النهاية لا يفعل ولا يتفاعل إلا في مجتمع ومع مجتمع؛ بحيث يكون فعله وتفاعله إسهاما مقصودا أو غير مقصود.
لكن، يبقى السؤال: كيف الطريق إلى الفرد الحر/ الإنسان الليبرالي؟ والجواب في تقديري يمكن اختصاره بما يلي: إذا كان الفرد الحر (لا الجماعة المتعالية التائهة في الفراغ الشعاراتي) هو أساس الفاعلية الليبرالية، فإن الفرد الحر لا يتحقق وجوده إلا من خلال التعبير الحر الذي يمكنه من أن يَفهم ويُفهم، كما هو ـ في الوقت نفسه ـ يضمن تفاعل أكبر قدر من العقول، ومن ثم؛ ينتج الأفكار التي تخضع للانتخاب/ الاصطفاء، بواسطة جدلية سلمية، تخلق “الأصوب” الذي يجري استثماره؛ فيخضع بدوره للاختبار الواقعي.
هذا التصور هو ما أختاره؛ ولم أجترحه ابتداء. لقد أدرك فلاسفة التنوير العظام أن التعبير الحر هو الانعكاس الطبيعي للتفكير الحر القادر على اجتراح الأفكار الأكثر صوابية، وأن لا تفكير بلا تعبير، فالتعبير المقيد هو ـ في المضمون ـ: التفكير المقيد. ربما لم يناقشها أولئك الفلاسفة على نحو أعمق في القرن الثامن عشر، لكنهم عبروا عنها بكل صرامة ووضوح؛ انطلاقا من هموم آنية ومباشرة.
يقول أحد فلاسفة التنوير الموسوعيين/ هلڤتيوس: “حرية التفكير لا تنفصل عن حرية الصحافة. فإن استحال التعبير عن الآراء بحرية، تعذر التأكد من صوابها أو خطئها. وللفصل في صحتها لا بد أن توضع على محك المعارضة والمناقضة “(فلسفة الأنوار. ف.فولغين، ص192). ومنذ ذلك العصر الذي خلق التنوير وتَخَلَّق به؛ ارتبطت “حرية التعبير” بـ”حرية الصحافة”، نظرا لكونها آنذاك أهم وسيلة للنشر/ الإعلام، وبالتالي؛ أهم وسيلة لتعميم ومناقشة الأفكار.
في العصور العربية الحديثة التي يمكن أن يطلق عليها ـ بكثير من التجاوز ـ مسمى “الحقب الليبرالية” كانت حرية التعبير من أهم ملامحها ودلائلها. ما قاله المفكرون والأدباء في مصر بين عامي 1920 ـ 1952 يستحيل عليهم أن يقولوه في أي وقت لاحق. كانت اللّبْرَلة في طريقها للتحقق في أكثر من مجال، ولكن سرعان ما حدثت انتكاسات خطيرة، انتهت بكوارث لا تزال تفعل فعلها في الإنسان العربي إلى اليوم، وربما إلى المستقبل القريب.
أواخر القرن العشرين، وبدايات هذا القرن، احتار المفكرون العرب في أسباب هذه الانتكاسة، فمنهم من أرجعها إلى الاستعمار سلبا (أي هو من خطط لها، أو وضع بذورها)، ومنهم من أرجعها إليه إيجابا (باعتبار أنها حقبة مرتبطة به، وبرحيله رحلت)، ومنهم من ربطها آليا بالانقلابات العسكرية التي عسكرت الثقافة والفكر والأدب والإعلام. غير أن محمد أركون يرجعها إلى ما هو أعمق، إلى المتخيل الجمعي. وهو إذ يؤكد أن “المؤسسات السياسية والنظام التعليمي السائد والأدب والفكر لم ينل عمليا من مضامين المتخيل الديني المشترك وآليات اشتغاله”، فإنه يؤكد أن “ديمومة هذا المتخيل الجماعي وقوة توسعه واندفاعه هو الذي يفسّر لنا سبب فشل الأنظمة البرلمانية التي جربتها الدول التالية بعد الحرب العالمية الأولى: مصر، سورية، لبنان، العراق، إيران، تركيا. فلم يكن شيء في هذه الأنظمة ينبثق من الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للجماهير الشعبية لهذه البلدان، وإنما كانت مستوردة من الخارج وملصوقة به لصقا على واقع محلي غير مهيأ لها” (تاريخية الفكر العربي الإسلامي، أركون، ص70).
ما قاله المفكرون والأدباء في مصر بين عامي 1920 ـ 1952 يستحيل عليهم أن يقولوه في أي وقت لاحق
وأركون إذ يُحيل إلى هذا المتخيل الجماعي كسبب لعدم فعالية الجهود التنويرية/ الليبرالية السابقة، فإنه لا يلبث ـ في موضع آخر ـ أن يُحيل إلى سبب آخر. يقول ـ متحدثا عن عدم نجاح المرحلة الليبرالية العربية/ النهضة التي يراها تمتد بين عامي 1880 ـ 1950: “لم يُتح لهذه المرحلة أن تنجح لأسباب عديدة ربما كان أهمها ما يلي: تغلب ضرورات الصراع ضد الخارج على الصراع ضد الداخل، أو تغلب التحرير الخارجي على التحرير الداخلي” (تاريخية الفكر العربي الإسلامي، أركون، ص290/ 291). وهكذا، فإذا كان السبب الأول معنويا؛ مرتبطا بنمط الوعي الموروث/ المكرس، فإن السبب الآخر مادي، مرتبط بالمعركة المباشرة مع الاستعمار.
عموما، يبدو أن الإنسان العربي في نظر أركون يخرج بريئا في كلتا الحالتين، من حيث كونه فيهما مجرد ضحية لواقع لا خيار له فيه. فهو في الأولى محكوم بموروث عميق وقوي يتحكم فيه، وفي الثانية محكوم بمعركة مفروضة عليه من الخارج.
ربما كان نصر أبو زيد أوفر حظا في تفسير سبب انتكاسة التنوير العربي (عند مقاربته لما كتبه زكي نجيب محمود في كتابه “حصاد السنين”)، فبعد أن عدّه “الحلقة الوسطى بين جيل الرواد وبين جيل المحدثين” يطرح التساؤل الآتي: “ما الذي جعل “حصاد التنوير” فقيرا إلى هذا الحد؟ والإجابة عن هذا، يجب أن نبحث عنها في طبيعة خطاب التنوير ذاته، بكل ما يتضمنه هذا الخطاب من عناصر الإيجاب ومن عناصر السلب. والأهم من ذلك كله أن نبحث في الخطاب التنويري عن الأسئلة المضمرة والمكبوتة، بل والمقهورة إلى حد التحريم” (الخطاب التأويل، نصر حامد أبوزيد، ص67/68).
في تقديري أن هذه الأسئلة المضمرة والمكبوتة التي لم يُسمَح لها أن تمارس دورها في النقد/ التفكيك معنية بموروث تاريخي ديني، يقف الإنسان الفرد/ الإنسان الحر في صميمها. أسئلة الإنسان الفرد/ الحر لم تطرح في خطاب التنوير العربي؛ بقدر ما طرحت أسئلة الإنسان المجموع: الإنسان الأمة، الإنسان الوطن، الإنسان المذهب، الإنسان التنموي… إلخ. وإذا عرفنا أن الإنسان في صورة المجموع له حضور واضح وقوي في التراث على أكثر من مستوى؛ سهل علينا تفسير هذا التسالم، الذي يصل حد التفاعل الإيجابي أحيانا، بين التنوير النهضوي وعموم التراث الذي لم يكن لـ”الإنسان الفرد/ الإنسان الليبرالي” حضور فيه؛ إلا من حيث هو حضور باهت يعزز فرضة الغياب.
الحرة