أحمد المصري
تتجاوز حكاية مقتل الصحفي “جمال خاشقجي” حدود الجريمة لتصبح مفترق طرق إقليمي و دولي في القادم من الأيام.
أعترف أني أمام هول السخافة البشعة في معطيات الجريمة حين كانت “اختفاءا” غامضا، انزلقت في متاهات المنطق امام لا منطقية الجريمة نفسها، فالمنطق يقول أن السعودية أذكى من أن تقوم بتصفية الرجل بهذه الطريقة البشعة والمكشوفة، وهذا ما دفعني إلى أن أسعى “ضمن المنطق” إلى البحث عن حقيقة من قتل الرجل، وضمن معطيات حياة خاشقجي نفسه والتي تجعله هدفا لأكثر من جهة.
في المحصلة، خاشقجي السعودي قتله سعوديون، في مبنى دبلوماسي سعودي، والقصة لا زالت تزداد سخونة في من يتحمل مسؤولية قتله، خصوصا امام أسئلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي خرج بخطاب لم يحمل حيثيات جنائية كما توقع الجميع منه حسب دعاية ما قبل الخطاب، لكنه حمل ما هو اخطر من ذلك في طياته وثناياه: مشاريع صفقات سياسية ستغير كل معطيات الإقليم لسنوات كثيرة قادمة.
لكن، بعيدا عن بشاعة الجريمة وسخافة حيثياتها التي أشغلتنا فكنا جميعا نحاول أن نتلبس شخصية المحقق الإنجليزي الشهير شرلوك هولمز، مما خلق قنبلة دخانية جعلتنا ننسى الأهم، وهو الثغرات الزمانية والمكانية والسياسية التي خلقتها الجريمة لتواصل أطراف مثل إيران التسلل من خلالها أكثر واكثر في الواقع الجيوسياسي العربي، المخترق أصلا.
حتى تركيا الأردوغانية، والتي حمل خطاب رئيسها بذور صفقات سياسية، لم تترك المشهد بدون استغلال بشع لفرض رؤيتها “الكولونيالية” الجديدة مدعومة في عالمنا العربي بأخطر تنظيم سياسي متمرس ومحترف في التسلل غير الشرعي داخل الأزمات ليتموضع من جديد، وأعني هنا تيار الإخوان المسلمين.
نحن امام تحول كبير في المنطقة، يعصف بتحالفاته ويؤثر فعليا على كل واقعه على الأرض، وأهم واقع هو الواقع الفلسطيني الذي ينتظر مخرجاته النهائية بقرار دولي يبحث عن حلول كيفما كانت والعرب غائبون عن رسم سيناريوهات قادمة تتعلق بقضيتهم المصيرية، والكل ـ ما عدا العرب ـ لديه مصالح في المنطقة.
هناك حرب شرسة جدا الآن، لا ضجيج بارود يعلن عنها، لكن هي موجودة، ورأس حربتها عمليات التسلل في الثغرات وما أكثرها، بينما نحن منشغلون بفك أزمات وقضايا مفتعلة إما بحماقات أو بتواطؤ خبيث مع تلك الحماقات.
الشرق الأوسط الآن، مختلف عما كان عليه ـ رغم كل تشظياته ـ قبل مقتل جمال خاشقجي، وعملية مقتل خاشقجي كانت الفجوة في الجدار التي يتسلل منها الجميع لفرض أوراقه على الطاولة.
الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت لا تزال، لكن الاستعداد لها يتطلب رؤية أوسع قليلا من مسرح جريمة اسطنبول، فالجريمة وإن نفذها سعوديون وراح ضحيتها صحفي سعودي بارز، إلا ان “قميص خاشقجي” الآن على أسنة رماح الجميع.