ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ على رغم أنّ عمليّة اغتيال الصحافيّ السعوديّ جمال خاشقجي داخل مقرّ قنصليّة بلاده في مدينة اسطنبول التركيّة يوم الثاني من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) المنصرم لم تكن الأولى من نوعها في مسلسل الجرائم المماثِلة التي أودت بحياة العشرات من فرسان الكلمة والرأيّ الحرّ على طول خارطة العالم وعرضها، وربّما لن تكون الأخيرة، فإنّ ما بات في حُكم المؤكَّد هو أنّ استمرار الغموض الذي لا يزال يكتنف مصير جثّة الفقيد من حيث مكان إخفائها أو طريقة التخلُّص منها، معطوفًا على ارتفاع وتيرة التجاذب لأغراض التوظيف السياسيّ ما بين كلٍّ من الولايات المتّحدة وتركيا من جهةٍ وما بين المملكة العربيّة السعوديّة من جهةٍ أخرى، لا بدَّ من أن يدفع المعنيّين بـ “مهنة المتاعب”، اعتبارًا من الآن وحتّى إشعارٍ آخَر، إلى إدراج هذه العمليّة في خانة الجرائم الأكثر إثارةً للجدل، سياسيًّا وإعلاميًّا، في التاريخ الحديث لبلاط “صاحبة الجلالة”، علمًا أنّ هذا التصنيف لا يُفترَض أن يعني بالطبع أنّ شخصيّة الراحل جمال خاشقجي تزيد أهمّيّةً وقدْرًا، سواءٌ من حيث القيمة المهنيّة أم من حيث القيمة الإنسانيّة، عمّن سبقوه في قافلة الزملاء – الشهداء بعدما قُدِّر لهم أن يدفعوا دماءهم ثمنًا لحرّيّة الكلمة والتعبير في أزمنة التحوُّلات الكبرى المماثِلة جدًّا لما نشهده لتوِّنا في هذه الأيّام.
نسيب المتني
على هذا الأساس، ومع الأخذ في الاعتبار أنّ بلدًا مثل لبنان كان يُعتبَر نموذجًا يُحتذى به في مجال العمل الصحافيّ الحرّ والمستنير مقارنةً بالدول العربيّة الأخرى، ولو بدرجاتٍ مختلفةٍ ومتباينةٍ، فإنّ هذه الميزة التي يُفترَض أن تكون نعمةً من السماء لم تحُل في الواقع دون تنفيذ عمليّة اغتيال صاحب ورئيس تحرير صحيفة “التلغراف” نسيب المتني لدى إطلاق النار عليه أمّام مكتبه في بيروت يوم التاسع من شهر أيّار (مايو) عام 1958، أيْ بعد مرور قرابة الشهرين فقط على إعلان وثيقة الوحدة بين مصر وسوريا في إطار “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة”، وهي العمليّة التي هزَّت الرأي العامّ الوحدويّ في لبنان وأدَّت إلى اندلاع “ثورة الـ 58” على خلفيّة انقسام البلد وقتذاك بين معسكريْن متضادّيْن، أحدهما متعاطفٌ مع فكرة التنسيق مع الدول الدائرة في الفلك الغربيّ وسياسة الأحلاف العسكريّة بقيادة الرئيس كميل شمعون والآخر متحمِّسٌ لدولة الوحدة الوليدة بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر.
كامل مروة
بعد ذلك جاءت عمليّة اغتيال مؤسِّس صحف “الحياة” و”ذا ديلي ستار” و”بيروت ماتان” كامل مروة لدى إطلاق النار عليه من مسدَّسٍ مزوَّدٍ بكاتمٍ للصوت داخل مكتبه في العاصمة اللبنانيّة يوم السادس عشر من شهر أيّار (مايو) عام 1966، وهي العمليّة التي ظلَّت هويّة منفِّذها مجهولةً على مدى أكثر من خمسينَ عامًا من الزمان، إلى أن تمّ الكشف عن أنّه يدعى عدنان سلطاني، وأنّه تلقّى أوامره من نائب رئيس “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة” عبد الحميد السرّاج الذي كان قد تلقّى بدوره إيعازًا بهذا الخصوص من الرئيس جمال عبد الناصر.
سليم اللوزي
أمّا عمليّة اغتيال رئيس تحرير مجلّة “الحوادث” سليم اللوزي، فقد تمَّت بُعيْد اختطافه لدى خروجه من مطار بيروت الدوليّ يوم الخامس والعشرين من شهر شباط (فبراير) عام 1980 في أعقاب وصوله من العاصمة البريطانيّة لندن، ليُعثَر على جثّته بعد تسعةِ أيّامٍ مرميَّةً على الطريق، وليتّضح على الفور أنّه تعرَّض للتعذيب على أيدي قاتليه الذين حامت الشبهات على أنّهم ينتمون إلى أجهزة الاستخبارات السوريّة، ولا سيّما أنّ الراحل كان من أشدّ المعارضين للتدخُّل العسكريّ السوريّ في لبنان، الأمر الذي اضطرَّه لكي ينقل مكاتب مجلّته من منطقة “فرن الشبّاك” شرق بيروت إلى لندن قبل تاريخ اغتياله بقرابة الثلاثةِ أعوامٍ من الزمان، وتحديدًا بعد تنفيذ جريمة اغتيال الزعيم الدرزيّ كمال جنبلاط قرب مدينة بعقلين الشوفيّة يوم السادس عشر من شهر آذار (مارس) عام 1977.
رياض طه
وفي صباح الثالث والعشرين من شهر تمّوز (يوليو) عام 1980، وبينما كان نقيب الصحافيّين رياض طه متوجِّهًا من دار النقابة في محلّة “الروشة” لمقابلة رئيس الحكومة المستقيل سليم الحص في منطقة “الدوحة”، اعترضه مسلَّحون على الطريق بالقرب من فندق “كونتيننتال” وأطلقوا عليه أربعين رصاصةً من رشّاشاتهم، الأمر الذي أودى بحياته وبحياة سائقه وابن خالته سهيل الساحلي على الفور، بعدما كانت آخر عبارةٍ قالها النقيب الراحل يومذاك: “قتلوني… يا عار بنادقهم”.
سهيل الطويلة
رئيس تحرير صحيفة “النداء” وعضو المكتب السياسيّ للحزب الشيوعي اللبنانيّ سهيل الطويلة سقط بدوره ضحيّةً لعمليّةِ اغتيالٍ بستِّ رصاصاتٍ أُطلِقت عليه بعد اختطافه من منزله لدى عودته من مكاتب الصحيفة في بيروت يوم الرابع والعشرين من شهر شباط (فبراير) عام 1986، وذلك بعدما كان قلمه قد أبدَع في مجال الدعوة إلى النضال من أجل التغيير الديمقراطيّ ومقاومة الاحتلال الإسرائيليّ.
حسين مروة ومهدي عامل
أمّا رئيس تحرير مجلّة “الطريق” الثقافيّة والمفكِّر الماركسيّ العريق حسين مروة، وعلى رغم أنّه كان قد ناهز الثمانين سنةً من عمره، فإنّه لم يسلَم أيضًا من غدْر المسدَّسات المزوَّدة بكواتمَ للصوت، حيث تمَّ اغتياله داخل منزله يوم الثامن عشر من شهر شباط (فبراير) عام 1987، وذلك بعدما كان قد أصدر عدّة مؤلَّفاتٍ من بينها كتابه الشهير: “النزعات المادّيّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة”، وهو الاغتيال الذي أحدَث صدمةً هائلة في الشارع الثقافيّ العربيّ والسياسيّ اليساريّ، ولدرجةٍ دفعت المفكِّر اللبنانيّ مهدي عامل إلى القول في يوم التأبين: “قتلوك لأنّك شيعيّ وشيوعيّ”، قبل أن يسقُط بدوره يوم الثامن عشر من شهر أيّار (مايو) من العام نفسه ضحيّةً لعمليّةِ اغتيالٍ بالرصاص في أحد شوارع بيروت لدى توجُّهه إلى صرح الجامعة اللبنانيّة التي كان يُدرِّس فيها موادّ الفلسفة والسياسة والمنهجيّات باسمه الحقيقيّ، أيْ الدكتور حسن عبد الله حمدان.
مصطفى جحا
الكاتب والمفكِّر اللبنانيّ مصطفى جحا، وإنْ كان قد اشتهر بانتقاداته اللاذعة للتدخُّل الفلسطينيّ في لبنان التي تضمَّنتها مقالاته المنشورة في صحف “العمل” و”الأحرار” و”النهار” خلال عقد السبعينيّات من القرن العشرين، والتي تسبَّبت باختطافه وتعذيبه على أيدي عناصر حركة “فتح” عام 1975، ولكنّ عمليّة اغتياله تمَّت يوم الخامس عشر من شهر كانون الثاني (يناير) عام 1992، أيْ بعد انتهاء الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وذلك عندما اعترضه مسلَّحون داخل سيّارته في منطقة “السبتيّة” وأمطروه بوابل من الرصاص، علمًا أنّ المحكمة الشرعيّة الجعفريّة كانت قد أصدرت عام 1983 فتوى تعتبره مرتدًّا وكافرًا على خلفيّة عدّةِ مؤلَّفاتٍ أصدرها وقتذاك، ومن بينها كتابيْ “الخميني يغتال زرادشت” و”محنة العقل في الإسلام”.
سمير قصير
أمّا عمليّة اغتيال الصحافيّ والأستاذ في مادّة العلوم السياسيّة سمير قصير التي جرَت عن طريق تفجيرِ قنبلةٍ تمّ زرعها داخل سيّارته في منطقة “الأشرفيّة” في بيروت يوم الثاني من شهر حزيران (يونيو) عام 2005، فإنّ اللافت فيها هو أنّها جاءت بعد مرور أقلّ من أربعةِ أشهرٍ على جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبنانيّ رفيق الحريري التي ما زالت تشغل العالم لغاية يومنا الراهن، ولا سيّما بعدما قُدِّر لها أن تؤسِّس لما عُرِف بـ “انتفاضة الاستقلال” التي ما لبثت أن أدَّت إلى إخراج القوّات السوريّة من لبنان، ناهيك عن أنّها مهَّدت لوقوع المزيد من جرائم الاغتيال السياسيّ في وقتٍ لاحق.
جبران تويني
وفي هذا السياق، جاءت عمليّة اغتيال رئيس مجلس إدارة صحيفة “النهار” النائب جبران تويني يوم الثاني عشر من شهر كانون الأوّل (ديسمبر) عام 2005 عن طريق تفجيرِ سيّارةٍ مفخَّخةٍ في ضاحية “المكلِّس” في بيروت لتؤكِّد على أنّ غريزة القتل عند الظلاميّين من أعداء الكلمة الحرّة والفكر المستنير ماضيةٌ في حصد أرواح الزملاء من روّاد الصحافة النزيهة وأصحاب الأقلام النظيفة، خدمةً لأجنداتٍ مشبوهةٍ لا يمكن أن تمتّ للنور بأيِّ صلةٍ، ولا سيّما إذا أعدنا للذاكرة أنّ هذه العمليّة على وجه الخصوص، تمَّت بعد مرورِ ساعاتٍ قليلةٍ فقط على تسلُّم ديتليف ميليس رئاسة لجنة التحقيق الدوليّة في جريمة اغتيال رفيق الحريري، ناهيك عن أنّ الراحل جبران تويني هو صاحب القسم الشهير الذي مكَّن اللبنانيّين من استعادة بعضًا من وهج عنفوانهم بعدما جاء فيه: نقسم بالله العظيم، أن نبقى موحَّدين، مسلمين ومسيحيّين، دفاعًا عن لبنان العظيم”… وحسبي أنّ أكثر ما يحتاج إليه الزملاء العاملون في “مهنة المتاعب” هو تحويل هذا القسم إلى فعلِ إيمانٍ وطنيٍّ – مهنيٍّ متناغمٍ، علَّنا ننجح من خلال التمسُّك به في الحيلولة دون سقوط المزيد من الشهداء… والخير دائمًا في الكلمة الحرّة من وراء القصد.