حازم صاغية
قد تكون الصورة الأكثر تعبيراً عن أحوال عالمنا أنّ المستشارة الألمانيّة أنغيلا مركل سوف تتخلّى عن قيادة حزبها بعد شهرين، وعن قيادة بلدها بعد عامين. أمّا ضابط المظليّات السابق جايير بولسونارو فسوف يتولّى رئاسة البرازيل مدعوماً بأكثر من نصف السكّان وأكثريّة النوّاب وحكّام الولايات الثلاث الأكبر في بلده.
الخبر الأوّل محزن وقد يغدو مخيفاً. الخبر الثاني مخيف ومقرف في وقت واحد. هزائم كثيرة متلاحقة، كان أهمّها في بافاريا بالجنوب وفي هِسّي بالوسط، دفعت مركل إلى الانسحاب من الحلبة. حالة الأمن والتضخّم والفساد في البرازيل حملت البرازيليّين اليائسين على تسليم بولسونارو مفتاح خلاصهم المتوهَّم أمناً واقتصاداً.
على هذا النحو سيمضي البلد الأكبر في أوروبا والبلد الأكبر في أميركا اللاتينيّة. فإذا حلّ في قيادة المسيحيّين الديموقراطيّين الألمان أحد خصوم مركل، وإذا نشأ ائتلاف، على غرار الائتلاف النمساويّ، مع حزب «البديل»، أمكن القول إنّ الديموقراطيّة الألمانيّة مُنيت بهزيمة ساحقة. أمّا القيم التي تُهزم بهزيمتها فتمتدّ من الموقف الأخلاقيّ المتقدّم حيال اللاجئين والمهاجرين إلى التصدّي لزحف الشعبويّة المدعوم بجيران الشرق، وعلى رأسهم فلاديمير بوتين وفيكتور أوربان، وبـ «حلفاء» الغرب، وعلى رأسهم دونالد ترامب. المشروع الأوروبيّ الذي بقيت ألمانيا (وفرنسا) كالقلعة المحاصَرة في الدفاع عنه، قد يسقط وينطوي.
في المقابل، هذه بعض عناوين القيم التي ترتفع بانتصار بولسونارو: تمجيد الحلول الأمنيّة والعسكريّة وامتداح التعذيب في السجون. الكراهية، الممزوجة بالاحتقار، لحقوق الإنسان والأجانب واللاجئين والنساء والفقراء والمثليّين والسكّان المحليّين. تشريع الاعتداء على الطبيعة من خلال إتاحة الاستثمار في غابات الأمازون، أكبر مصادر المطر في عالمنا.
ولئن هدّد انتخاب بولسونارو بإعادة البرازيل إلى الديكتاتوريّة العسكريّة التي رزحت عقدين تحتها، ولم تتخلّص منها إلاّ في 1985، فإنّ سقوط مركل قد يفتح الطريق لقراءات أخرى للماضي الألمانيّ، قراءاتٍ قد لا تتبنّى السرديّة النازيّة إلاّ أنّها تكفّ عن مراجعتها ونقدها باتّجاه مصالحة تدريجيّة معها.
هذا النكوص إلى الأسوأ في تواريخ الأمم والشعوب يستولي اليوم على أفق العالم. وإذا أحصينا البلدان التي تحكمها شعبويّات قوميّة تبيع كلّها، على اختلافها، «أمجاد التاريخ» ذات الأثر الأفيونيّ، اصطفّت في صفّ واحد الولايات المتّحدة والصين وروسيا والهند والفيليبين والبرازيل وإيران وفنزويلاّ وتركيّا وبولندا وهنغاريا والنمسا وإسرائيل… وغداً ربّما ألمانيا. أمّا مراجعة الأنظمة التي سبقت هذا الصعود الشعبويّ، ومعظمها أنظمة ديموقراطيّة، فستزداد إلحاحاً من غير شكّ، ومعها سيزداد الإلحاح على الذهاب بعيداً في نقد الفساد والسياسات الاقتصاديّة التي حكمت تلك الأنظمة.
فاليأس من هذا العالم محكوم بأن يطلق نوعاً من الإصرار الحديديّ على استخلاصه من براثن بولسونارو وزملائه الكثيرين، وعلى إعادة تثبيته على سكّة المستقبل. فهو، في آخر الأمر، وحده العالم، وهو عالمنا نحن أيضاً، على رغم كلّ شيء.
الحياة اللندنية