أقلام مختارة

مونودراما الاغتصاب

رياض عصمت

رياض عصمت

شاعت ظاهرة المونودراما في بلدان عربية عديدة. يتذكر الجمهور العربي بعض عروض المونودراما الشهيرة مثل “الزبال” و”القيامة” للمؤلف السوري ممدوح عدوان، ولمع فيهما الممثل الفلسطيني الزيناتي قدسية. كما يتذكر مونودراما “ليلة دفن الممثلة ج” للمؤلف الأردني جمال أبو حمدان، ومونودراما المؤلف التونسي حكيم مرزوقي “عيشة”، التي مثلتها رائفة أحمد ثم مها الصالح، و”الاختيار” من تأليف وأداء الفنانة السورية/الكندية ندى حمصي، وكذلك مسرحيات المونودراما التي قدمها الممثل اللبناني رفيق علي أحمد، وبعض عروض مرتجلة للفنان نمر سلمون. في الواقع، بدأت الظاهرة بالرواج منذ سبعينيات القرن العشرين حين أخذ الجمهور العريض ينحسر عن المسرح الفني الجاد ليقبل على المسرح التجاري لنخبة من نجوم الكوميديا الكبار، ويقبل أيضا على أعمال الكوميديا التهريجية الهابطة.

يتسم فن الدراما بالصراع التراجيدي بين شخصيتين، إن لم يكن عدة شخصيات. يؤدي هذا الصراع إلى كشف ما ينوِّر وعي الشخصية المحورية ويغير موقفها من الشخصية الأخرى، تمهيدا لخاتمة المسرحية. يصدق هذا مع مسرحية شكسبير الكلاسيكية “الملك لير”، كما يصدق مع مسرحية تنيسي وليامز الحديثة “ترامواي الرغبة”.

منذ الإغريق، كُرِّس المسرح الغربي مفهوم البطل Protagonist والخصم Antagonistفي بناء الشخصيات. بالمقابل، تضمنت بعض المسرحيات شكلا مختلفا من الصراع الذي لا يدور بين شخصيتين مهاجمة ومدافعة، وإنما داخل النفس البشرية الواحدة. هكذا، نرى هاملت يتردد بين الإقدام والإحجام على اغتيال عمه الملك الذي قتل أباه وتزوج أمه، أو نلاحظ تفاوت مشاعر الأم كوراج في مسرحية برتولد برشت بين الحزن على مصرع أولادها في الحرب واستغلال الحرب للربح من تجارتها، أو نكتشف داخل جو كيلر بطل مسرحية آرثر ميلر “كلهم أبنائي” تنامي التناقض بين شعور الذنب نتيجة تسببه بمصرع ولده الطيار وإخفائه الحقيقة بإلقاء اللوم على شريكه البريء.

من المسرحيات المبكرة الشبيهة بالمونودراما مسرحية قصيرة كتبها المؤلف السويدي أوغست سترندبرغ بعنوان “الأقوى”، هي عبارة عن مونولوج طويل لزوجة مخرج معروف تجالس ممثلة حسناء شابة في فرقة زوجها لا تنطق بكلمة واحدة، وتكتشف الزوجة تدريجيا من خلال استعراضها لبعض ذكريات يومية صغيرة أن لزوجها علاقة بتلك العشيقة التي تجالسها، لكنها بعد المرور بلحظات انكسار وضعف أمام الممثلة الحسناء التي تضحك فقط، تعود فتدرك انتصارها عليها، لأن زوجها المخرج يؤوب في النهاية إلى بيته وعائلته مخفيا نزوته عن أعين الناس، ومخفيا علاقته في الظل.

تلا تلك المسرحية الرائدة ظهور بعض مسرحيات اللامعقول التي كتبها صموئيل بيكيت، وتكاد تنتمي إلى طراز الممثل الواحد أو الممثلة الواحدة رغم وجود ممثلين آخرين فيها، لكن تلك الشخصيات المساندة قليلة الكلام جدا، كما في نهاية “الأيام السعيدة”، لكن بيكيت كتب أيضا مسرحية ممثل واحد عنوانها “شريط كراب الأخير”. كذلك نذكر في المسرح المعاصر بعض مسرحيات الإيطالي داريو فو، مثل “يقظة” و”ميديا”.

في القرن الحادي والعشرين، يبدو أن العامل المادي أخذ يلعب في العالم الغربي دورا متزايدا في تشجيع الفرق المسرحية على القيام بإنتاج مسرحيات الممثل ـ الواحد (التي اصطلح على تسميتها بالعربية “مونودراما”) لتصبح بديلا عن مغامرة الفرق المسرحية الكبرى بتمويل أعمال مكلفة ذات شخصيات متعددة لا توجد ضمانة لنجاحها في شباك التذاكر واستقطابها للجمهور الواسع.

لاحظت مؤخرا أن فن المونودراما بدأ بالهيمنة على إنتاج بعض كبريات الفرق المسرحية الأميركية. في موسم عام 2018 الحالي مثلا، نجد مسرح “غودمان” الشهير في وسط شيكاغو قام بإنتاج ثلاثة أعمال من طراز المونودراما، وهي “بامبلونا” عن شخصية وسيرة حياة الأديب الكبير آرنست همنغواي، “نحن أحياء فقط لفترة قصيرة من الوقت” للكاتب والممثل المعروف ديفيد غيل عن طفولته وشبابه البائسين في أحد أطراف لندن الفقيرة بعد أن هشم والده رأس أمه بمطرقة، و”سيدة في الدنمارك” للمؤلفة ديل أورلاندرسميث عن امرأة أميركية مهاجرة من الدنمارك تدعى هيلين.

تبدأ المسرحية بتلك السيدة في منزلها في أندرسنفيل بشيكاغو الغني بمكتبة عارمة ولوحات فنية عديدة وهي تضع أسطوانة وراء أخرى لتستعيد ذكرى زوجها الذي توفي بالأمس وتركها وحيدة. تعود ذكريات هيلين بنا إلى سني يفاعتها في الدنمارك، حين تعرضت لاغتصاب بشع وهي في سن الرابعة عشرة من عمرها مما جعلها تنفر طويلا من الحب والزواج. صحيح أن والدها الطبيب الدانماركي استطاع الانتقام من مغتصب ابنته، الذي عثر عليه مقتولا بصورة غامضة في غابة، لكن جريمة الاغتصاب تركت ندوبا عميقة في نفسية الضحية البريئة إلى أن التقت بإنسان رقيق محب اقترنت به فخلصها من المحنة النفسية التي عانت منها لزمن مديد، وجمع بينهما في زواج سعيد عشق أغنيات أيقونة الغناء الشهيرة بيلي هوليداي.

تروي هيلين أحد أجمل ذكريات شبابها في كوبنهاغن، حين اتفقت الأسرة على أن تفرح الأب في عيد ميلاده بدعوته لحضور حفلة لمطربته المفضلة بيلي هوليداي، وكيف حيته على المسرح وجعلت الجمهور يغني له “هابي بيرثداي” بالدنماركية، ثم كيف تعرف إليها في الكواليس ولاحظ مرضها، فدعاها إلى بيته وعيادته ليعالجها من مرضها، وكيف رحب مع زوجته وأفراد أسرته بأن تأتي المغنية الأميركية وتقيم معهم ضيفة في بيتهم إلى ما تشاء، لولا أن زوج المغنية الشهيرة يرفض الفكرة قضا وقضيضا ويجعلها تغادر بلا رجعة. العامل المؤثر أن بيلي هولداي نفسها كانت ضحية للاغتصاب، وهي جريمة بشعة حتى لو ارتكبت ضد عاهرة، كما تقول بطلة المسرحية هيلين.

ينتهي العرض مثلما بدأ بواحدة من أغنيات أسطورة الغناء بيلي هوليداي بينما تصعد السيدة الدنماركية درج منزلها وحيدة لتأوي إلى فراشها في موطنها الأميركي الذي أصبحت منتمية إليه بالكامل. دوت القاعة بتصفيق حار، ووقف الحضور بأجمعهم تحية تقدير وإعجاب.

أعزو نجاح العرض الباهر لثلاثة أسباب. أولها، شاعرية النص الذي ألفته ديل أورلاندرسميث ـ وإن كنت أعتقد بإمكانية تطويره دراميا لتتضافر الحبكة مع الحوار الناجح في إحداث تأثير عاطفي أقوى في الختام، يتوازى مع قوة موضوع الاغتصاب، الذي طرحته بشكل مؤثر فعلا. ثانيها، الإلقاء الحساس والحضور المرهف للممثلة القديرة ليندا غيهلنغر، التي سحرت المتفرجين وبثت في نفوسهم نشوة واندماجا رائعين بحيث توحدوا مع الشخصية وشاركوها ذكرياتها الحميمة. أما ثالثها، فهو إسهام شي يو الإخراجي، الذي فضل مبدأ التواري في الظل لإظهار النص والتمثيل، (وقد سبق أن حازت فرقته “فيكتوري غاردنز” في شيكاغو جائزة “توني” المسرحية المهمة، كما حاز هو نفسه جائزة “أوبي” الرفيعة).

ختاما، يخطر ببالنا السؤال: ما السبب وراء ازدهار ظاهرة المونودراما عالميا بعد انتشارها المبكر في العالم العربي؟ في زماننا الراهن، صرنا نلاحظ في معظم بلدان العالم، بشرقها وغربها، بشمالها وجنوبها، اغتصاب الفرد لسلطة الجماعة. بالتالي، بدأنا منذ أواخر القرن العشرين نرغم عنوة على تقبل فكرة الزعيم الأوحد، المفكر الأوحد، الأديب الأوحد، النجم الأوحد، المخرج الأوحد، المطرب الأوحد.. إلخ، وكأن الأمور جميعا عبارة عن معركة شرسة في الفنون القتالية المختلطة MMA من المسموح فيها توجيه ضربات تحت الحزام واستخدام شتى الوسائل اللاإنسانية لإلحاق الهزيمة بالخصم. الهدف المضمر طبعا ـ وإن أنكر الجميع إعلانه صراحة ـ هو إلغاء الآخر، تدمير سمعته، تشويه تاريخه، تفنيد إبداعه، وبالتالي رفض التعددية والتنوع في كل حلبات المنافسة والصراع، السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والأدبية والفنية. في الواقع، تلك ليست مونودراما معاصرة فحسب، وإنما هي تراجيديا معاصرة بدأ سرطانها ـ للأسف الشديد ـ يستشري في عدد متزايد من بلدان العالم بأسره. أذكر جملة حكيمة حفرت في ذاكرتي، إذ قيل: “الأفضل أن تكون شجرة في غابة على أن تكون نخلة في صحراء قاحلة”.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق