دارا عبدالله
أصعب شيء في هذه الأيام هو أن تكون صحافيا في العالم العربي. مع بدء موجة “الربيع العربي” في العام 2011، والخبطة التي ضربت كل وسائل الإعلام بسبب سطوع “حقيقة الشارع العارية”، كما وصفها عالم الاجتماع البريطاني مانويل كاستل في كتابه “شبكات الأمل والغضب”، صار الصحافيون، إلى حد ما أقوى من المنابر الإعلامية المكرسة. ازدادت قوة الصحافيين مع ضعف قدرة الصحافة التقليدية على الوصول إلى مصادر المعلومات، وبروز ظاهرة “المواطن الصحفي” الذي يمتلك أقداما تتحرك مع خبرة قليلة، أمام تراجع ظاهرة “الصحافي المكتبي” الذي يمتلك رأسا يفكر وخبرة واسعة.
مع فشل هذه الجولة من “الربيع العربي”، لأسباب لا يتسع لها هذا المقال، وهيمنة الثورة المضادة، عادت هذه المنابر لتصبح أقوى من الصحافيين. نجاح “الربيع العربي”، باعتقادي، كان سيؤدي، بشكل أو بشكل آخر، إلى نجاح الصحافة العربية وحل مأزقها.
اليوم، ولشدة الاستقطاب الحاصل في المنطقة، فإن أي شيء ستقوله أو ستكتبه في أي قضية سيندرج فورا في إطار صراع ضد طرف آخر. مثلا، عليك أن تنتبه إذا وقفت مع انتفاضة البحرين ضد الأسرة الحاكمة وتسارع لأن تدين التدخل الإيراني الإجرامي في قضايا المنطقة في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وعليك أن تمايز نفسك من الموقف الإيراني نفسه، لما تقف ضد التدخل السعودي في اليمن والجرائم المرتبكة ضد المدنيين.
عليك أن تخلق الفصل بينك وبين المؤيدين لنظام بشار الأسد وأنت تدين أسلمة الثورة السورية وارتكابات الفصائل الإسلامية والتفافهم على الحد الأدنى للمبادئ التي خرج من أجلها الشعب السوري.
عليك أن تذكر قارئك دوما بأنك أصلا ضد التدخل التركي في المناطق ذات الغالبية الكردية السورية، لما تقف ضد السياسات الاحتكارية والميل الشمولي لمنظومة حزب العمال الكردستاني وفروعه في المنطقة؛ وغير ذلك الكثير من الأمثلة التي تعبر عن واقع دقيق ومركب وشديد التداخل يمكن أن يؤخذ موقفك بسهولة في خضمه ويستخدمه طرف ضد طرف آخر، الأمر الذي يقودك إلى التوضيح دوما منعا للالتباس.
إذن، هل السكوت حل؟ الأكيد أن السكوت ليس حلا. لكن، أحيانا، ما لا نستطيع قوله، هو أهم بأضعاف مما نقوله. المشكلة في الصحافة العربية ليست في حرية السباحة، المشكلة هي تحديدا في عمق المياه؛ لا فائدة للسباحة الحرة في مساحة ضيقة.
لا أتحدث عن نماذج ركيكة تصنف تحت خانة صحافيي السلطة. أتحدث عن صحافيين يمتلكون ضميرا ووجدانا، ويحلمون بمساحة حرية أكبر، لكن واقع الاستقطاب في المنطقة لا يسمح بهذا الأمر.
صحافيون كثر لم يستطيعوا مثلا أن يعطوا موقفا دقيقا وجريئا من قضية جمال خاشقجي، بسبب هيمنة المال السعودي على الإعلام. نصير أحيانا، نحن الصحافيين الذين يكتبون بالعربية، مثل التلفزيون السوري الرسمي، الذي كان يتحدث عن تكاثر الحيوانات وقمة إيفرست، في حين كانت البلاد تشتعل بأكبر حدث في تاريخها السياسي.
ثمة جهات إعلامية مستقلة عربية حرة، لكنها تُعد على أصابع اليد. تهتم هذه المواقع، إما بمسائل خاصة لا علاقة لها بإشكالية الشأن العام، كالموسيقى والفن المعاصر والأدب، أو بحقوق الأقليات كالنساء والمثليين والأقليات الإثنية وغيرها؛ وهي قضايا مهمة وملحة، لا شك في ذلك، لكن هذه المواقع تبتعد، غالبا، عن الخوض فيما هو إشكالي ودقيق وحساس.
تواجه هذه الجهات أزمة التمويل. فالسوق الإعلاني في العالم العربي مسيطر عليه من قبل الأنظمة الحاكمة، وهذا ما يضع الجهات المستقلة في حاجة دائمة لتمويل الجهات المانحة. وهو أمر له إيجابياته وسلبياته، ويضع هذه الجهات الإعلامية في مرمى الاتهام الدائم بالتبعية للخارج، هي تهمة جاهزة ومعلبة عربيا.
لا أتحدث أيضا عن الفبركة وتزوير الحقائق، بل قول جزء من الحقيقة بكل “حرية”، في حين لا نستطيع قول الحقيقة كاملة، وهذا أخطر، هو كأن تعض بأسنانك على قلبك.
خسارة هذه الجولة من “الربيع العربي” أجّلت الحلم بإعلام عربي أكثر استقلالية. ربما ساهمت وسائل الإعلام القائمة في التسبب في هذه الخسارة. نحن هنا أمام حلقة مغلقة. يجب أن يبدأ التغيير من مكان ما. في هذا الوقت، نستمر بالعض على قلوبنا.
الحرة