كيرلس عبد الملاك
من قبيل الهزل وخيبة الأمل أن ترتمي إحدى الدول العربية وهي مصر في معركة المفترض أن تكون قد حُسمت وطُويت صفحاتها الإنسانية منذ سنوات بل قرون وهي معركة حظر النقاب، لكن قدرنا أن نشهد هذه المعركة في عصر حديث أثبتت المرأة فيه جدارتها بأن أصبحت رئيسة جمهورية ورئيسة وزراء، تقود وتدير وتتحكم كالرجل بالضبط، لأن مجتمعاتنا لم تنعم بعد بما يقلع جذور تقديس العادات والتقاليد الموروثة.
إلى يومنا هذا، وعلى الرغم من التطور الذي يشهده العالم في حقوق الإنسان ووصول المرأة إلى مستويات مهنية وقيادية غير مسبوقة هناك من يتصور أن هذا الكائن الأنثوي من الأنسب له أن يغطى بشكل كامل بطبقة صماء من القماش حتى يكون مؤهلا لنيل الرضا المجتمعي العربي فيطلق عليه وصف المتدين القريب من الله.
لقد أصبح طمس الهوية الشخصية الكامنة في وجه الإنسان من دواعي الحرية البشرية، وصار تحويل المرأة إلى مجرد مثير جنسي للرجل هو أقصى درجات التدين، وبرغم الاستحسان المجتمعي الذكوري لتنقيب المرأة وإخفاء وجهها في مصر تظل حالات التحرش بالمنتقبات داخل المجتمع المصري موجودة بوضوح لتعلن عن خطأ الرؤية لدى من يظنون أن تغليف النساء يمثل دفعا نحو عفة الرجل، فالأزمة الأخلاقية المنتشرة في المجتمعات العربية بالخصوص لا ترجع إلى المرأة أو ملابسها إنما ترجع بالحق إلى الناظرين لها من الرجال وما يحملونه من مثيرات داخلية، والتحرش بالمنتقبات خير دليل على ذلك.
من جهة أخرى، فإن الحرية لا يليق بها أن تكون مطلقة، لكن اللائق بها أن تكون غير مضرة بالآخرين على نهج الجملة الشهيرة: “أنت حر ما لم تضر”، فحينما يختار شخص أن يخفي وجهه في الأماكن العامة هو يختار ما يمكن أن يضر الآخرين بعدم ثبوت شخصيته في زمن تجري فيه الكثير من العمليات الإرهابية والحوادث الجنائية، وهذا بالتأكيد ليس تأييدا أو دفعا نحو التعري، فلا يوجد من النساء من يلبسن البكيني مثلا في الأماكن العامة في الدول العربية لكي نطالبهن بالتراجع عما يفعلون.
أتذكر أنني قرأت عن النقاب أو رداء مشابه له في التوراة في يوم من الأيام فوجدت أنه كان رداء الزانيات اللائي يردن إخفاء وجوههن خجلا وعارا من عملهن المنحط، وهذا منذ أكثر من ألفي عام، فكيف تحول النقاب من رداء للزانيات إلى رداء للمؤمنات في المجتمعات العربية؟! وكلنا نعلم أن الإسلام ذو أصول إبراهيمية توراتية.
الغريب في الأمر أن المؤسسات الدينية المصرية أقرت بعدم فرضية نقاب النساء في الإسلام، ومع ذلك مازال يتواجد في مصر من يحث على إتاحته وإتاحة حرية استخدامه من منطلق ديني سواء من رجال الدين أو من العامة، وكأن الدين صناعة بشرية نتجت قواعدها بحسب ما يرضي المتدينين به وما يتناسب مع عاداتهم التي التصقت بالرؤية الدينية لهم، وهذا بالطبع يعد إهانة للدين الذي من المفترض أن يؤمن المتدينون به بأن واضعه الله لا آخر سواه.
قطاع كبير يُرجع نقاب النساء إلى الحرية الشخصية طمعا في إيجاد سببا ديمقراطيا يؤدي إلى استمرارية بقاء النقاب في الشارع المصري، فهل يقبلون نقاب الرجال باعتبارهم أحرار أيضا؟ هل يقبلون أن يتحول كل المجتمع إلى مغلفي الوجوه من منطلق الحرية الشخصية أم أن الوضع سيختلف بخروجه عن حيز الاعتقادات الدينية المتسيدة على عقولهم؟
الوضع جد خطير ويحتاج إلى ثورة حقيقية في التعاليم، لم يعد من الرفاهية المصرية أن تنقح وتنقى التعاليم الدينية مما يشوبها من مفاهيم خطيرة تهدد بقاء المجتمع، فوجود عقول غير سوية تقدس ميولها العاطفية المتعلقة بالرؤية الدينية وتجد في التطرف تدين وورع لا يمكن أن ينتج عنه إلا مزيدا من السقوط والفشل، لأن الإنسان هو عماد أي دولة، فإذا أصيب ذلك الإنسان بأي خلل عقلي أو نفسي صار بقاء الدولة مهدد بالفناء.