السلايدر الرئيسيثقافة وفنون
في غزة” خان الأنتيكا” يجمع عبق الماضي وتاريخَ القدماء وتفاصيل لا يعرفها الكثيرون
محمد عبد الرحمن
– غزة – من محمد عبد الرحمن – زاوية صغيرة تشبه الخانَ، يعود عمرها لعشرات السنين وأكثرَ, أول ما تطأ قدماكَ أعتابها تتيقن أنها تحوي ما يجهله الكثيرون من سكانِ سوق الزاوية وسط مدينة غزة الذي يعود لعهدِ القيسارية, من بينِ تلك الأغراض المكتظة بهذا المحل الصغيرِ؛ يفوح عبق الماضي.
الخمسيني “أبو جميل الريس” صاحب المحل التجاري القديمِ؛ حمل جميع ما يتعلّق بالقديمِ على أنها هواية منذ أنْ كان عمره خمسة عشرَ عاماً, فقد كان يبحث عن أي شيء يَظهر عليه معالم القديمِ؛ ليحتفظ بها في غرفته الخاصة، وإن هزَأَ منه الآخرون من الناس, فلا أحد يحبّذ ما يفعله، ولا أحد يعي ما يقوم به وقت أن كان طفلا تعلق قلبه بتاريخِه الأصيلِ.
وتحولت هواية “أبو جميل الريس” من محب للأشياءِ القديمة، بعد أن اكتنز منها كميات لا بأسَ فيها، وبعد أن انتهى من دراسة اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، من هواية إلى مهنة يمارسها في حياته وفي أيامه العادية من خلالِ شراء القِطع القديمة والأوراق والمستندات والصور والنحاسيات، وعرضها في متجره الصغير؛ ليبيع بعضها ويعرِض بقيتها .
ونظم “الريس” في متجره الصغير قسماً لا بأس به من سجلات وأرشيفات؛ تحتفظ بمعلومات لا يعرفها الفلسطينيون أنفسهم, فبعضها يحتوي على العملات القديمة من شتى دولِ العالم من جميع القارات.
ففي أشياء يجهلها المجتمع الغزي، ويجهلها غالبية الناس القاطنين بفلسطين, كما فهناك ملفات وسجلاتِ تخص أرض فلسطين من عملات بشتى الأنواع والألوان الورقية منها والنحاسية، فضلاً عن السجلاتِ التي تعود للزمن العثماني بأرض فلسطين.
عملات فلسطينية
“الريس” استنكر الإهمال الشعبي والحكومي، وكل أطيافِ اللونِ الفلسطيني تجاه تهميشِ ما يتعلق بفلسطين , ويرجع “الريس” أسباب الإهمال لضعف الوضع الاقتصادي، وبحثِ المواطنِ الفلسطيني عن أساسياتِ بيته ولقمة عيشه خلال يومه, فلا يفضل الغزي والفلسطيني على وجه العموم أن يحتفظ بشيء من مقتنيات الماضي، مقابل أن يدبرَ لقمة العيش لأطفاله .
وأَرجعَ أيضا “الريس” الأسباب لقلةِ الوعي الثقافي لدَى أبناءِ الشعبِ الفلسطيني بقوله :”أنا لا أريد أن أبيع كل تلكَ البضاعة القديمة, لكن أريد أن أرى الفلسطينيينَ داخل هذا المتجر للتعرف على الماضي , أريد أن أراهم يتصفحونَ تلك الكتب؛ التي لا توجد في أيّ بقعة خارج الوطن”.
وحصل “الريس” بجهده الخاص دونَ مساعدة تذكر من أحد على عملات عربية أصيلة؛ كـ العملةِ المصريةِ القديمة المعروفة بالجنيه، وعملة الجماهيرية الليبية الاشتراكية؛ وهي الدينار, والعملة الأردنية، والعملة السورية والكثير, وذكر “الريس” بعض العملات الأوروبية التي يحتفظ بها في سجلاته الخاصة؛ مثل الأوراقِ المالية التي رسمَ عليها “الملك جورج”.
ويقضي “الريس” وقتًا كبيراً يوصِل خلاله الليل بالنهارِ؛ وهو يعمل على تصنيف العملات الورقيةِ والحديديةِ حسَبَ الدولةِ، وحسب الزمنِ، وحسب نوعها، وحسب قيمتِها, وهذا أمر يحتاج لجهد عظيم من ذوي الخبرة بالماضي البعيد.
قراءة التاريخ من هنا
ومن متجرِ “الريس” الصغيرِ تقرأ التاريخ من كل أبوابه، وتسعَى جاهداً أن تفهمَ كل ما مر بفلسطين من عصور ومراحل عصيبة، وأخرى ضدها, ولكن يداهمك الوقت وأنتَ فقط تتأمل محتويات المتجر بصعوبة؛ لاكتظاظ رفوفه اللافتة.
وصنفَ “الريس” من بين سجلاتِ العملاتِ الورقية والحديدية ملفا خاصا بالطوابع البريدية؛ التي يعود عمرها لعام 1920, والتي كانت تعد الختم الرسمي الذي يستخدمه الملوك والرؤساء، ومن له علاقة بإصدار القرارات.
وشملت سجلاته أيضا سجلات ومراسلات مكتوبة بخط اليدِ؛ تعود للعصر العثماني؛ بين الحكام وبين شركات البترول البريطانية التي تزوِدُ المحطات الفلسطينيةَ بالوَقود , فضلاً عن احتفاظه بحسابات مالية قديمة مع بنك باركلز .
يقول الريس :”هذا الجمع من السجلات لا يفهمه الكثير من الناسِ؛ لقلة الوعيّ الثقافي، وقلة المخزون الفكري لدَى الفلسطينيين, فالكثيرون كانوا يهزؤون بي حين بدأتُ بجمعِ مثل تلك الأوراق، ومثل تلك القطع القديمة , لكني بقيت مصمماً على فكرتي؛ لأني أحمل الهدف والمبدأ بإثبات حق فلسطين من خلال تلك المقتنيات القديمة”.
احتفظ “أبو جميل” بألبوم كبير يرصد الحياة القديمة لسكان قطاعِ غزة قبل وبعد عام الهجرة 48 , فأصحابُ الألبوم قد وورت أجسادهم في الثرَى، وأصبحوا مع الأموات الحاضرين في متجر “الريّس” بصورهم وأرواحهم.
أصالة وعَراقة
أما عن النحاسيات والقِطع الحديدية؛ فقد خصص لها “الريس” رفوفاً خاصة لمكانتها وكثافة حضورها زمن الأجداد قبل عشرات السنين، ويمكن أن تتعدى المئات, فقد كان من السائدِ قديماً استعمال القطع النحاسية في أغراض الطعام والشراب والكثير.
ويضم الخان “بكارج” القهوة النحاسية ذات اللون الأحمر؛ تصطف ومن حولها فناجين القهوة النحاسية أيضاً, وتتعدد الأنواع والأشكال والأحجام والألوان, لكن الرابط المشترك هو عودتها لزمن عاشه أجدادنا، فلا يقل عمر”البكرج” الواحد عن
مائة عام , فضلاً عن حضور “الهون” النحاسي متعدد الأحجام؛ الذي يستخدم لدق الحبوب بأشكالها، وعمل المأكولات الشعبية، وبجانبه مطحنة البن التي غابت عن البيت الفلسطيني بشكل واضح.
وعلق “الريس” في صدارة متجره “غربالاً” مصنوعاً من جلد الحيوان, وهو الغربال الأصلي صاحب الأمثال العربية الأصيلة, ويحاذي الغربال أدوات منزلية كثيرة ومتعددةُ الأغراضِ؛ صنعت معظمُها من النحاسِ .
واحتوى متجر “الريس” على مجموعة كبيرة من الكتب التاريخيةِ النادرةِ في الأسواق الغزية والعالمية على وجهِ الخصوصِ, والتي تتحدثُ عن مراحل مرت بها فلسطين بتفاصيلَ دقيقة في كل العصور, ومنها كتب تشمل الحديثَ عن أصالة الأرض، وكل ما يتعلق بفلسطين منذُ وجودِها, فضلاً عن امتلاكه كتباً أدبية عربية وأجنبية تاريخية.