أقلام مختارة

طباخ السمّ

كوليت بهنا

استوقفني قبل أيام خبر مصور من طهران لحشود شعبية إيرانية تحيي الذكرى السنوية لعملية احتجاز رهائن دبلوماسيين أميركيين في السفارة الأميركية عام 1979. بدت الحشود غاضبة للغاية تنادي بـ”الموت لأميركا” وغيرها من شعارات الكراهية.

بحثت عن تفاصيل أكبر للخبر عبر المواقع الإخبارية، لأكتشف أنها ليست المرة الأولى التي تخرج فيها هذه الحشود الغاضبة، إذ يتكرر المشهد ذاته كل عام لإحياء طقوس هذه الذكرى، من دون أن يخفف مرور 39 عاما من الزمن من حدة الكراهية أو يغيّر من شعاراتها الغاضبة.

عملية احتجاز الرهائن الدبلوماسيين الأميركيين واحدة من أكبر الأزمات التي عصفت بالعلاقات بين البلدين بعد سقوط نظام شاه إيران في كانون الثاني /يناير 1979 حين قام طلاب من الثوار الإيرانيين في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر باقتحام السفارة الأميركية في طهران واحتجاز 52 أميركيا لمدة 444 يوما مطالبين الولايات المتحدة بتسليم الشاه لمحاكمته؛ إذ استقبلت واشنطن الشاه مضطرة من أجل العلاج أواخر شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام ذاته.

وثقت السينما الأميركية عبر فيلم “آرغو (ARGO 2012)” للمخرج بن أفليك، قصة إنقاذ ستة من الدبلوماسيين الأميركيين من بين المحتجزين في طهران. اعتبر الفيلم أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما الأميركية، وترشح عام 2013 لسبع جوائز أوسكار حصد ثلاثا منها عن أفضل فيلم وأفضل سيناريو مقتبس عن قصة حقيقية وأفضل مونتاج. الملفت في هذه الجوائز أنها أعلنت في حينه من قبل السيدة الأولى السابقة ميشال أوباما في بث مباشر من البيت الأبيض في مبادرة غير مسبوقة في تاريخ جوائز الأوسكار، لكنها بدت رسالة سياسية أميركية واضحة للنظام الإيراني ومباشرة في تفسيرها.

من الواضح أن يوم الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر ليس يوما سنويا عاديا بالنسبة للذاكرة السياسية والشعبية الأميركية، إذ ما زالت ذكرى عملية احتجاز الرهائن الأميركيين في طهران محركا سياسيا ومحرضا وجدانيا لاستمرار العلاقات المتشنجة بين البلدين بعد مرور أربعة عقود من الزمن، وهو ما يفسر تزامن الإعلان عن بدء سريان الدفعة الثانية من العقوبات الأميركية ضد إيران في اليوم ذاته، أي الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر لهذا العام. وهو توقيت لم يأت من فراغ أو مصادفة بالتأكيد، وكأن لسان حال الأميركيين يقول: إننا لا ننسى! ليأتي الرد السياسي الإيراني المتوقع عبر إطلاق هذه الحشود الغاضبة في اليوم ذاته ليقول بدوره: نحن أيضا لا ننسى.

في التدقيق بالمشهد الشعبي الإيراني هذا العام، والذي بدا أكثر حقدا وكراهية وغضبا، يمكن للمرء أن يتفهم غضب الشعوب حين تقع على دولها عقوبات قاسية كتلك الواقعة على النظام الإيراني منذ سنوات. إذ أثبتت كل التجارب الدولية السابقة والراهنة في موضوع العقوبات التي تطال بعض الأنظمة في العالم، بأن الشعوب هي من تدفع في المحصلة الثمن الباهظ للنتائج الكارثية التي تتسبب بها العقوبات الاقتصادية، فيما تجد الأنظمة والشخصيات الكبرى المدرجة في قوائم العقوبات سبلا كثيرة للتملص من هذه العقوبات أو التحايل عليها أو العثور على مسارب دولية قانونية وغير قانونية تحتفظ بها بسلطاتها وثرواتها الباهظة.

لكن ما لا يمكن تفهمه في الحقيقة هو هذا الاستغلال السياسي للاحتقان الشعبي الإيراني ضد العقوبات لإحياء ذكرى عملية تعتبر في الأعراف الدولية والدبلوماسية عملية إرهابية وهي عملية احتجاز الرهائن عام 1979، من دون أن يجرب الساسة الإيرانيون لمرة واحدة تقديم الاعتذار عنها كخطأ استراتيجي في بادرة حسن نية تعيد تحسين العلاقات وترفع بعضا من نير العقوبات عن الشعب الإيراني الواقع بين فكي الغلاء والأوضاع المعيشية المضنية، ثقافة الكراهية التي يتم برمجتها وتغذيتها أيديولوجيا من دون توقف، وتتمنى الموت لجميع من حولها في العالم، إلا إيران.

لا تبنى الدول بتغذية الكراهيات والأحقاد في وعي شعوبها، وكثيرا ما أودت هذه الكراهيات والأحقاد إلى تآكل دعاتها وكل من يروج لها. إنها مثل طباخ السمّ، لا بد أن يتذوقه يوما ما!

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق