السلايدر الرئيسيتحقيقات
لبنان… قراءةٌ في رمزيّة المصالحة المسيحيّة الوجدانيّة في بكركي… وصورةٌ قديمةٌ من دفاتر التاريخ
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ لم يكن من المقدَّر لهذه الصورة التاريخيّة الملتقَطة يوم الخامس والعشرين من شهر آب (أغسطس) عام 1977 أن تبقى حاضرةً في ذاكرتي، ومن ثمّ في أرشيفي، على مدى ما يزيد عن إحدى وأربعينَ سنةً لولا العديد من الاعتبارات الشخصيّة البحتة التي يتناغم فيها البُعدان المهنيّ والوطنيّ في أجندةِ صحافيٍّ كان قد بدأ الخوض في غمار “مهنة المتاعب” بصفةِ مراسلٍ لجريدة “السفير” اليوميّة في محافظة شمال لبنان قبل ذلك التاريخ بقرابة الخمسةِ أشهرٍ فقط، ولا سيّما أنّ ظهوري فيها بشكلٍ عفويٍّ على جهة اليمين لدى قيامي بتغطية وقائع خلوة “الجبهة اللبنانيّة” التي استضافها الرئيس سليمان فرنجيّة وقتذاك في قصره الصيفيّ في إهدن، بحضور كلٍّ من الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل والأباتي شربل قسّيس والأرشمندريت سمعان عبد الأحد والنائب إدوار حنين والدكتور شارل مالك والدكتور فؤاد أفرام البستاني والأستاذ جواد بولس والشيخ قبلان عيسى الخوري والسادة دوري شمعون وجوزف أبو خليل وموسى برنس وهنري طربيه وجان نفّاع، سرعان ما ساهم إلى حدٍّ كبيرٍ في كسر الحاجز النفسيّ الذي بُنيَ بين الطرابلسيّين والزغرتاويّين على أنقاض ما خلَّفته حرب السنتين (1975 – 1976) من إرهاصاتٍ ونوباتِ جنونٍ في أوساط أبناء الوطن الواحد، والذي أُزهِقت على جانبيْه أرواحٌ كثيرةٌ، وهُدِرت عند تخومه دماءٌ أكثر، ناهيك عن أنّ الصورة بحدِّ ذاتها، سرعان ما تحوَّلت بدورها إلى إحدى أهمّ الوثائق ذات الدلالات القاطعة على ما تمايزت به وحدة الصفّ المسيحيّ اللبنانيّ من متانةٍ في أوقات الشدّة، قبْل أن تُصاب بشرخٍ عميقٍ جرّاء انقسام الرأي بين مكوِّناتها حول الضوابط اللازمة لتحديد طبيعة وأُطر النظرة المستقبليّة للوجود العسكريّ السوريّ في لبنان، وهو الشرخ الذي ما لبث أن تجلّى بعد أشهُرٍ قليلةٍ عندما قرَّر الرئيس فرنجيّة الانسحاب من الجبهة لصالح السوريّين، مخالِفًا بذلك إجماع بقيّة أقطابها على وجوب إنهاء “التحالف المرحليّ” مع نظام الرئيس حافظ الأسد، الأمر الذي كان له بالغ الأثر في تأجيج الخلافات بين أفراد العائلة المسيحيّة اللبنانيّة الواحدة بأشكالٍ أخذَت طابعًا دمويًّا مقيتًا، ووصلَت إلى حدِّ قيام مجموعةٍ من مقاتلي “حزب الكتائب” في بلدة بشرّي بارتكاب “مجزرة إهدن” البشعة التي أودت بحياة النائب طوني سليمان فرنجيّة وزوجته فيرا قرداحي وطفلتهما الصغيرة جيهان وثمانيةٍ وعشرين شخصًا من أنصاره صباح يوم الثالث عشر من شهر حزيران (يونيو) عام 1978، والتي قُدِّر لصفحتها أن تُطوى بشكلٍ نهائيٍّ نهار أمس الأربعاء في أعقاب إتمام المصالحة التاريخيّة برعاية البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في بكركي بين رئيس حزب “القوّات اللبنانيّة” الدكتور سمير جعجع وزعيم “تيّار المردة” سليمان طوني فرنجيّة، إيذانًا بانتهاء زمان آخر الحروب المسيحيّة – المسيحيّة على أرض لبنان.
دفاتر التاريخ
وإذا كان لا شيء أعزُّ على قلب الصحافيّ أكثر من ذاكرته الحافلة بما قُدِّر أن يتيسَّر أمامه خلال مسيرته المهنيّة من مشاهدَ وصوَرٍ وتجاربَ وعِبَرٍ، فإنّ الأمانة الأخلاقيّة تستوجب التنويه في سياق تأريخ ما حصل البارحة في بكركي بأنّ مصافحة جعجع – فرنجيّة لم تكن سهلةً بأيِّ معيارٍ من المعايير لكلاهما على حدٍّ سواء، وخصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الأوّل هو الذي قاد الهجوم المسلَّح من بشرّي على إهدن ولكنّه لم يتمكَّن من الوصول إلى هدفه جرّاء تعرُّضه للإصابة على الطريق، وأنّ الثاني نجا من المجزرة بسبب وجوده يومذاك في منزل جدِّه في منطقة النقّاش قرب بيروت بينما كان لا يزال في الثالثة عشر عامًا من العمر، ناهيك عن أنّ صوَر الضحايا التي نُشِرت لاحقًا في وسائل الإعلام، والتي تسنّى لي أن ألتقِط معظمها إثر نجاحي في الوصول إلى مسرح الجريمة قبيْل وصول سيّارات الإسعاف بدقائقَ معدودةٍ فقط، وبالتالي قبل وصول سليمان طوني بمعيّة جدِّه على متن مروحيّةٍ عسكريّةٍ، جسَّدَت في مجملها أبشع تجلّيات نزعة الإجرام الدمويّ في تاريخ الإنسانيّة الحديث، الأمر الذي كنتُ قد تطرَّقتُ إليه بإسهابٍ في كتابي الصادر عام 2013 تحت عنوان “أصنام صاحبة الجلالة” لدى سرد حيثيّات “مجزرة إهدن” والملابسات التي أحاطت بها، بدءًا من الانسحاب الآنف الذكر للرئيس الراحل سليمان فرنجيّة من “الجبهة اللبنانيّة” الذي أفضى إلى ظهور معادلةٍ تكرَّس بموجبها نجله الراحل طوني بصفةِ “ذراع السوريّين” في مواجهة الشيخ الراحل بشير الجميّل الذي تكرَّس بدوره بصفةِ “ذراع الإسرائيليّين” في لبنان، مرورًا بالدعم العسكريّ السوريّ الذي حظيَ به “المردة” في عمليّاتهم الرامية إلى إخراج الكتائبيّين من محافظة الشمال، سواءٌ عن طريق استهداف بعض القرى المسيحيّة بقصفٍ همجيٍّ على غرار ما حدث مثلًا في بلدة “بلّا” عندما أودَت قذائف ما كان يُسمّى بـ “قوّات الردع العربيّة” بحياة العشرات من أبنائها وأدَّت إلى تدمير كنيستها ومنازلها الآمِنة أم عن طريق تنفيذ اغتيالاتٍ سياسيّةٍ على شاكلةِ ما تعرَّض له رئيس إقليم زغرتا – الزاوية الكتائبيّ جود البايع قبْل المجزرة بعدّةِ أيّامٍ، وانتهاءً بلحظةِ وقوفي مذهولًا أمام جثّةِ طفلةٍ صغيرةٍ كانت البراءة لا تزال تُشرق من عينيها بعد قتلها بطلقةٍ إجراميّةٍ متعطِّشةٍ لدماء الأبرياء من دون أن تكون قد تجاوزَت ربيعها الثالث بعد، وهو المشهد الرهيب الذي لا يزال يُبكيني بشِدّةٍ كلّما تذكَّرته على غرار ما فعلته لدى قيامي بتأدية واجباتي المهنيّة يومذاك، أيْ منذ ما يزيد عن أربعينَ سنةً من الزمان.
البُعد الوجدانيّ
على هذا الأساس، لم يكن من المستغرَب أن تستحوذ مصالحة جعجع – فرنجيّة البارحة في بكركي على ما يليق بها من اهتمامٍ سياسيٍّ لافتٍ عبَّر عن نفسه بالترحيب الجامع من قِبَل معظم الأطراف والتيّارات والأحزاب في مختلف أنحاء البلاد، حتّى ولو أنّ الطرفيْن، أيْ حزب “القوّات اللبنانيّة” و”تيّار المردة”، فضَّلا إضفاء البُعد الوجدانيّ عليها من دون تغليفها بأيِّ طابَعٍ سياسيٍّ مُلزِمٍ، على أن يُصار إلى ترك مسألة بحث الجانب السياسيّ للعلاقة المستقبليّة بينهما لمسار الأيّام والشهور المقبلة، الأمر الذي يُجسِّد حالةً صحّيّةً بامتيازٍ قَلَّ نظيرها في التاريخ اللبنانيّ الحديث، ولا سيّما بعدما نصَّت الوثيقة الصادرة عن المصالحة على ما مؤدّاه أنّ “المردة” و”القوّات” أعلنا عن “إرادتهما المشتركة في طيّ صفحة الماضي الأليم والتوجُّه إلى أفقٍ جديدٍ في العلاقات على المستوى الإنسانيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والوطنيّ، مع تأكيدٍ على ضرورة حلّ الخلافات بالحوار الهادف والعمل معًا على تكريس هذه العناوين”، وأنّ “ما ينشده الطرفان عبْر بنود هذه الوثيقة ينبع من قلقٍ على المصير، وهي بعيدةٌ عن البازارات السياسيّة ولا تسعى إلى إحداثِ أيِّ تبديلٍ في مشهد التحالفات السياسيّة القائمة في لبنان والشمال”، وأنّ “التلاقي بين المسيحيّين والابتعاد عن منطق الإلغاء يشكلّان عاملَ قوّةٍ للبنان والتنوُّع والعيش المشترك فيه”، وأنّ “زمن العداوات بين القوّات والمردة قد ولّى وجاء زمن التفاهم”… وحسبي أنّ نموذج هذا الوضوح البنّاء إنْ دلّ إلى شيءٍ، فهو يدلّ إلى الحاجة الماسّة لاستنساخه وتجربته في مجال تسويةِ أزماتٍ وطنيّةٍ كبرى ما زالت الواحدة منها تجترُّ الأخرى في زماننا اللبنانيّ الراهن، علَّنا نصل بذلك إلى توفير المناخات الملائمة لصياغة تفاهماتٍ إنسانيّةٍ تؤدّي إلى أنسنَة السياسة، وليس إلى شيطنتها، وفاءً لأرواح شهداء سقطوا وما زلنا نبكي عليهم بحرقةٍ شديدةٍ منذ أكثر من أربعةِ عقودٍ من الزمان، وربّما لا يزالون يبكون علينا من ملكوت سماواتهم بحرقةٍ أشَدّ… والخير دائمًا من وراء القصد.