وليد العمري
ﯾظﮭر ﻟﻲ أن ﻣن أﻟﺢ اﻟﺣﺎﺣﺎت اﻟﺗدوﯾن ﻋﻠﻰ ھذه اﻟﺷﺑﻛﺔ اﻟﻌﻧﻛﺑوﺗﯾﺔ ﻣﺣﺎوﻟﺔ اﺳﺗﺧراج اﻟﻣﻧواﻻت اﻟﺟدﯾدة اﻟﺗﻲ أﺻﺑﺣت ﺗﻣﺎرس ﻣن ﺧﻼﻟﮭﺎ اﻟﺳﻠطﺎت ﺑﻣﺧﺗﻠف ﺗﻧﻛراﺗﮭﺎ ھﯾﻣﻧﺗﮭﺎ ﻋﻠﻰ رواد ھذا اﻟﻔﺿﺎء اﻟرﻗﻣﻲ ﻓﻲ ھذا اﻟﻌﺻر اﻟذي ﺷﮭد ﻣﺗواﻟﯾﺎت ﻣن اﻟﺛورات، ﺛورة ﺗﻛﻧوﻟوﺟﯾﺎ، ﺛورة ﻓﻲ رﻗﻣﻧﺔ اﻟﻣﻌﻠوﻣﺎت وﺗداوﻟﮭﺎ، وربما حتى ثورة في التثوير، بما أنه قد صار ممكنا اﻟﺣدﯾث ﺣﺗﻰ ﻋن “اﻟﺗﺛوﯾر “واﻟﺗﺣرﯾض رﻗﻣﯾﺎ ﻋﺑر ﺷﺑﻛﺎت اﻟﺗواﺻل اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﻲ، اي ﻣن ﺧﻼل اﻟﺣﺷد واﻟﺟﻣﮭرة اﻟﻼزﻣﯾن ﻻﺿرام اي ﺣراك، مثلما احال الى ذلك كتاب “شبكات الغضب والأمل” لعالم الاجتماع ايمانويل كاستيل.
ﻟﻘد ﺳﺎھمت الشبكة العنكبوتية “الانترنت” ﻓﻲ ازدھﺎر ﻣﺎ أﻣﻛن ﻟﻧﺎ ﻧﻌﺗﮫ باﻗﺗﺻﺎد ﻻﺷﻛﻠﻲ ﻟﻠﻣﻌطﯾﺎت واﻟﻣﻌﻠوﻣﺎت ﻋﻠﻰ ﻣواﻗﻊ اﻟﺗواﺻل اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﻲ، ﺑﺎﻟﺗﺎﻟﻲ ﻟم ﺗﻌد اﻟﺟﮭﺎت اﻟرﺳﻣﯾﺔ والقديمة ھﻲ وﺣدھﺎ اﻟﺗﻲ ﯾﻧﺎط ﺑﮭﺎ ﺗوﻓﯾر اﻷﺧﺑﺎر وﺳرد اﻟوﻗﺎﺋﻊ وﺧﻠﻊ اﻟﻣﻌﻧﻰ ﻋﻠﯾﮭﺎ، ﻓﺣﯾن أﻣﻛن اﻧﺗﻘﺎل اﻟﺧﺑر ﺻوﺗﺎ وﺻورة ﻓﻲ اﺳرع ﻣن اﻟﺑرق، ﺻﺎر ﺑﺈﻣﻛﺎن أي ﻛﺎن أن ﯾﺑث ﺻورا ﻋن اﺣداث ﻣخصوصة دون ان ﯾﻛون ﺻﺣﻔﯾﺎ او ﻣراﺳﻼ ﺑﻘﻧﺎة ﻣﻌﯾﻧﺔ واﯾﺿﺎ ﯾﺻﻧﻊ وﯾﺻوغ ﻣﻌﻧﻰ ﻟﻸﺣداث دون اﻟﺗﻌوﯾل ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺗﺳرده اﻟﺻﺣﺎﻓﺔ او ﯾﺻرح ﺑﮫ اﻟﻣﺧﺗﺻون ﻣﺛﻠﻣﺎ ﺣدث ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟم اﻟﻌرﺑﻲ اﻟﻣﺳﻠم ﺣﯾن قام بعضهم بالادعاء ان اﻧﮭﯾﺎر ﺑرج اﻟﺗﺟﺎرة اﻟﻌﺎﻟﻣﻲ ﺣﺎدث ﻣذﻛور ﻓﻲ اﻟﻘرآن وقس على ذلك، اذ انه لم تعد حقيقة وقوع الحادث من عدمه هي التي تهم المواطن الرقمي، بل ايضا الطريقة التي يتم من خلالها تطويع الخبر ليحضى بقابلية التبادل وينخرط في تأدية وظيفته السياسية، ان ﻧظرﯾﺔ اﻟﻣؤاﻣرة ﻋﻠﻰ ﺳﺑﯾل اﻟذﻛر ﻻ اﻟﺣﺻر ﻗد راﺟت ﺗﺣدﯾدا ﻟﮭذا اﻟﺳﺑب، اذ اﻧﻔﻠت زﻣﺎم ﺧﻠﻊ اﻟﻣﻌﻧﻰ ﻋﻠﻰ اﻟﺧﺑر ﻣن ﯾد اﻟﻣزودﯾن اﻟﺗﻘﻠﯾدﯾﯾن ﻟﻸﺧﺑﺎر واﻟوﻗﺎﺋﻊ.
اننا حين نعود الى اصول ظهور “الأنترنت” ﻓﻲ اﻟﺛﻘﺎﻓﺔ اﻟﻣﺿﺎدة اﻷﻣرﯾﻛﯾﺔ ﻓﻲ ستينيات اﻟﻘرن اﻟﻣﻧﺻرم، ﻓسنجد انه اﻗﺗرن ﺑﻌدة ﺧطﺎﺑﺎت طوﺑﺎوﯾﺔ، بما أن شبكة اﻷﻧﺗرﻧت ساهمت الى حد بعيد في الترويج لنموذج اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻷﻓﻘﯾﺔ واﻟﻣﺗﺳﺎوﯾﺔ التي ﺗﻣﻛن ﻛل اﻷﻓراد ﻣن اﻟﻣﺷﺎرﻛﺔ ﺑﺣرﯾﺔ ﻛﻣﺎ ﻻ ﯾﻣﻛن ذﻟك ﻓﻲ اﻟﻧﻣوذج اﻟﺑﯾروﻗراطﻲ اﻟذي ﯾﻘﻣﻊ اﻷﻓراد ھرﻣﯾﺎ.
ﻟﻛن “اﻷﻧﺗرﻧت” اﻟﻣﺗوﻓرة اﻵن ﻟﯾﺳت ھﻲ اﻟﻣﺗوﻓرة ﻣﻧذ ﻋﺷر ﺳﻧوات أو حتى منذ سنتين فقط نظرا للتغير المتسارع الذي شهدته الشبكة، فحتى اذا لم يعد مستخدموا “الانترنت” يتصفحون مواقع الجرائد والبوابات الرقمية، فان ذلك لان الاعلاميين والصحفيين لم يتخلوا بسهولة عن دورهم في التأثير على المواطن الرقمي ذلك ان وكالات الاخبار ووسائل الاعلام على شبكات التواصل اصبحت بدورها تعمل على جذب اكبر عدد من الزوار لصفحاتها ومواقعها والحفاظ عليهم. ا
ذ ان شبكات التواصل الاجتماعي لم تعد وسائط للوصول واختيار المضامين المراد الاطلاع عليها،ب ل هي تنزع تدريجيا الى ان تصبح وسائط للبث عبر تجريد المستخدم من قدرته على التفاعل واختيار المعطيات المراد جمعها واستعمالها لتصبح في ذلك شأنها شأن وسائل الاعلام الاخرى كالتلفزة والراديو والصحف الورقية.
اذ ان المعلومات التي يتم جمعها بلا توقف عن ميولات مستخدمي الانترنات واذواقهم ومواقفهم يتم استخدامها في المواقع التي تقدم خدمات مجانية كـ”يوتوب” و”فيسبوك” و”تويتر” و”غوغل” و”انستغرام” و ذلك من اجل بيعها لمن يدفع اكثر، اذ ان ارتفاع عدد متابعي صحيفة معينة او موقع اخباري ما او بوابة محددة غالبا ما لا يكون مجانيا.
ليس غريبا ان ينشر مارك زوكنبرغ على صفحته “الفايسبوكية” ذات مرة اشادة بكتاب “نهاية السلطة” لموازييه نايم الذي يشرح فيه كيف يستطيع افراد متنظمون ان تصبح لهم قوة اكثر مما للدول و الجيوش، فهم اذا ما استطاعوا نسج شبكة علاقات وروابط اجتماعية يستطيعون ان يتمتعوا بسلطة اكثر من تلك التي تتمتع بها الدولة، وهذا الشكل من التحرر من سلطة الدولة ممكن حسب زوكنبرغ بفضل “فيسبوك”، وسنفترض ايضا انه ممكن بفضل كل شبكات التواصل الاجتماعي بشكل عام، لكن هل هذه الشبكات التي ينسجها الافراد بينهم مستقلة تماما عن القوانين التي تمكن من ربط علاقات في الحياة اليومية؟
اي هل يمكن لأي فرد يمتلك حسابا على شبكات التواصل الاجتماعي ان يتواصل مع اي شخص اخر بمطلق المساواة والشفافية في فضاء مسطح ليس فيه من اثر للاقصاء او التراتبيات؟
لقد تسرب نفس المنطق المنظم للعلاقات الاجتماعية الى الفضاء الرقمي، مثلا “الهوموفيلي” او النزعة للالتقاء والتواصل بأشخاص يشبهوننا، او “الاندوغامي”، او النزعة للارتباط العاطفي او الزواج من اشخاص ينتمون لنفس الشريحة الاجتماعية، نفس الديانة، ويتبنون الكثير من القيم والاذواق المماثلة، اذ ان الخصوصيات “السوسيوثقافية” لها دور هام في التأثير على انماط التواصل التي تحدث في العالم الرقمي.
وقد اطلعنا على نتائج دراسة قام بها اربع باحثين اسبان على مستخدمي شبكة “تويتر”، واكتشفوا ان هؤلاء المستخدمين في الغالب الاعم يتواصلون مع اشخاص عندهم نفس الميولات والتوجهات والاذواق، اذ ان الفضاء الافتراضي كما يمكن لنا ان نفهمه ليس افتراضيا، بقدر ما هو انعكاس صادق للبنى الاجتماعية والتراتبيات التي تميزه.
لقد انشطر المجتمع الرقمي الى طبقتين رئيسيتين كما انتبه الى ذلك ميشال بويش، وهم
“النومونكلاتورا” من ضفة المجهولون على الضفة المقابلة، ان تموقعهم غير متأسس على قاعدة اقتصادية او مؤسساتية بقدر ما هي اعلامية، تواصلية، اي انه قائم على ما هو غير مادي.
ان “النومنكلاتور” او المعرف هو العبد الذي يناط به تذكير سيده باسماء الذين ينبغي ان يعرفهم، فهو يقف بباب المنزل لاعلان قدوم الذين يزورونه، وايضا في الحملات الانتخابية يصاحب سيده لتعريفه بمن يفترض ان عليه معرفتهم.
ان طبقة “النومونكلاتورا” اليوم هي طبقة المشاهير والمعروفين، او على الاقل فان الصحافيين يعرفونهم ويعرفون بهم، وتنقسم هذه الفئة الى المرئي منها والخفي، فـ”النوموكلاتورا الخفية” او الغير مرئية هي الشخصيات النافذة في عالم الاعمال والسياسة والاعلام، واهتماماتهم الرئيسية المال والسلطة، وهم يعيشون بصمت بعيد عن الضوضاء والجلبة، على عكس “النومنكلاتورا المرئية” والمنكشفة التي تظهر انتمائها الى الطبقة المهيمنة عبر نمط حياة يسيطر عليه الاستهلاك التفاخري بلغة ثورستاين فيبلان .
لكن في المقابل فان المجهولين هم ليسوا فاقدين لأسمائهم بل لأن اسمائهم غير معروفة من قبل الصحفيين، او المنوط بهم التعريف، لذلك يتم استحضارهم غالبا بصيغة الجمع، تحت مسميات عدة، فالمجهولون هم الذين لا تتداول اسماؤهم ووجوههم، مما يعني انه ليست لديهم قيمة تستحق الذكر.
في هذا المنوال ثنائي الطبقات، يصبح هدف المجهولين للترقي الاجتماعي واضحا، الالتحاق بطبقة “النومونكلاتورا”، وخاصة “النوموكنلاتورا المنكشفة” لانها اكثر اغراءا و نيلا للاهتمام، اذ يصبح الرهان على شبكات التواصل الاجتماعي من اجل تحصيل بعض الحضوة والتمكن من ان يصير الواحد معروفا في الشارع .
لهذا السبب اصبحت التلفزة وشبكات التواصل الاجتماعي مدرة للغثيان، لأنها اصبحت تعج باشخاص مستعدين لقول وفعل كل شيء من اجل التعريف بالذات، واقتحام ابواب النجومية والشهرة كلف ذلك ما تكلف، مثلما حدث في تونس منذ وقت ليس ببعيد حين تم اعلان معركة الاثداء العارية في الشوارع من قبل ناشطات محسوبات على التيار النسوي.
*كاتب من تونس