أقلام مختارة

الديمقراطية الأميركية والربيع العربي

 حسين عبد الحسين

حسين عبد الحسين

تيم فارلي هو البرنامج الإذاعي الذي أسمعه كل يوم أثناء قيادتي الصباحية. فارلي يلخص أحداث اليوم الفائت، ويقدم برنامج الأحداث المتوقعة في اليوم نفسه. كل صباح، يحيي فارلي المستمعين. يردد اليوم والتاريخ، ويذكر عدد الأيام المتبقية للانتخابات المقبلة. في اليوم الذي تلا فوز الديمقراطيين بغالبية مجلس النواب وحفاظ الجمهوريين على الغالبية في مجلس الشيوخ، قال فارلي، بعد التحية: إن 728 يوما متبقية على انتخاب الكونغرس المقبل، وكذلك الرئيس.

حكومة الولايات المتحدة وشعبها يعيشان وفق جدول انتخابات الكونغرس، كل عامين؛ والرئيس، كل أربعة أعوام. وهو ما يعني أن الأميركيين، الذين انتخبوا لتوهم الكونغرس الرقم 116 منذ قيام الدولة، لم ينقطعوا عن الانتخابات، كل عامين، على مدى 232 عاما خلت. لم تثن الحرب الأهلية الأميركية ولا حربان عالميتان، الأميركيين عن الانتخابات؛ بل إن نسب الانتخاب ارتفعت إبان الأحداث الكبرى، بسبب اهتمام المواطنين بالشأن العام، وتراجعت في السنوات التي عاشت فيها أميركا بهدوء، مثل العام 1996، الذي شهد أدنى نسبة مقترعين في الانتخابات الرئاسية.

هذا العام، سجلت الانتخابات النصفية نسبة مشاركة ناخبين لم تشهدها البلاد منذ 104 أعوام، أي قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد يكون السبب الأبرز خلف الارتفاع الكبير في نسبة المقترعين شخصية الرئيس دونالد ترامب وتصريحاته النارية، التي تحرك مؤيديه ومعارضيه على حد سواء.

رأى الديموقراطيون في انتصار ترامب والجمهوريين في انتخابات العام 2016 هزيمة نكراء لهم ولحزبهم ولبرنامجهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فتداعى نفر منهم من العاملين سابقا في الكونغرس، وألفوا كتيبا بعنوان “غير قابل للانقسام”، والعنوان مستلهم من قسم الولاء للبلاد.

أورد المؤلفون في الكتيب إرشادات لمناصري الحزب الديمقراطي حول كيفية انخراطهم في الحياة العامة وتأثيرهم في أحداثها، فافتتح المواطنون أكثر من 500 فرعا لمجموعة “غير قابل للانقسام” في عموم البلاد، وراحوا ينظمون صفوفهم، ويتظاهرون أمام مقار ممثليهم في الكونغرس، فأجبروا كثيرين من المشرعين الجمهوريين على التقاعد. ثم تبرع المواطنون، على قدر مستطاعهم، لتمويل الحملات الانتخابية لمرشحين منهم، فشهدت الانتخابات “موجة زرقاء”، نسبة إلى لون الحزب الديمقراطي، أطاحت بغالبية حزب الرئيس ترامب في مجلس النواب، ودفعت أكثر من 60 عضوا من حديثي العهد بالسياسة إلى الكونغرس.

و”الموجة الزرقاء”، هذا العام، لم تكن فريدة من نوعها. قبلها، كانت “موجة حمراء”، من الجمهوريين، اكتسحت غالبية الديمقراطيين الكونغرسية في العام 2010، وقبل ذلك “موجة زرقاء” اقتلعت الجمهوريين في 2006، وقبلها “موجة حمراء” في العام 1994. هكذا هي الديمقراطية الأميركية: تداول سلطة، وإدخال وجوه جديدة إلى الحكم، ودفع المخضرمين إلى التقاعد.

الديموقراطية هي حكم الأكثرية، وهو ما يعني أن لا نهضة بلا نهضة الأكثرية، ولا وعي بلا وعي الأكثرية، ولا تقدم بلا تقدم الأكثرية. والتقدم يأتي من القواعد، وتنبثق عنه القيادات، لا العكس، على ما يخال عرب كثيرون.

هذه هي الديمقراطية الأميركية: ربيع يأتي مرة كل عامين، تقول فيه الغالبية كلمتها، ويبدأ العد العكسي للانتخابات المقبلة، ويمضي الحزب الخاسر في إعادة تنظيم صفوفه، وتجديد دماء قادته ومرشحيه، وتحديث خطابه ومواقفه لتتناسب أكثر مع تطور الرأي العام وتقدمه.

أما في دنيا العرب، فالربيع يأتي مرة كل نصف قرن، تنقض فيه الغالبية على الأقلية الحاكمة، فيتولد عنف يتراوح بين قتل الحاكم أو إغراق المحكومين بدمائهم. في الحالتين، لا أفكار عربية جديدة لحكم جديد، بل اجترار لنفس الأفكار البالية المبنية دائما على تحميل مسؤولية الشقاء العربي للآخرين: الإمبريالية، والصهيونية، والاستعمار، والماسونية، وأعداء الإسلام، وإلى آخره من الخطاب الخشبي المعروف.

لا تقاليد في الحكم وتداول سلطة عند العرب. التقليد الوحيد المعروف هو الشخصانية وحب الظهور والنرجسية. أما الأبرز في الفشل العربي والإسلامي، فيتمثل في غياب شعور المواطنين بملكية الوطن، بل اعتقادهم أنه مشاع، وأن الزعيم الأفضل هو من يستولي على المشاع ويطعمهم.

ربيع العرب لن يأتي من الحكام، ولا من قوى العالم. ربيع العرب يتحقق يوم تعي عامة العرب ماهية الحكومة، وملكيتهم لها، وحرصهم عليها، وتقويض من يهدد انتظام عملها ومواقيت انتخابها. يومذاك، لن يأتي ربيع العرب مرة كل نصف قرن ليتحول إلى ديكتاتورية أو حرب أهلية، بل سيصبح ربيعا يحلّ دوريا، فيبقى الازهار في ديار العرب عابقا برائحة الورد والياسمين، بدلا من رائحة الموت والبارود.

الحُرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق