حسن منيمنة
لا شك أن العروبة كعقيدة سياسية وكطموح معلن لإقامة الوطن العربي الكبير الموحّد قد تقاعدت منذ زمن. قاعَدها، إن صحّ التعبير، بعد طول تعب، احتلال صدام حسين للكويت. فمع تحرير الكويت، انتفت عمليا الإشارات إلى القومية العربية كمحرك للنشاط السياسي، وتلاشت الأحزاب التي تعتنقها صادقة، وإن بقي البعض منها يرفع شعاراتها داخل نطاقه المحلي. ما لم يجرِ، هو المراجعة الذاتية الفعلية لأسباب الفشل، بل ترك المجال وحسب للطروحات الإسلامية أن تتقدم بالتفسيرات، الغيبية في معظمها، من باب أن غياب التمكين والنصر عائد إلى افتقاد الأمة للتقوى والطاعة. غير أنه ثمة مفارقة برزت في التسعينيات من القرن الماضي لتطيل أمد العروبة وإن بصيغة جديدة ملتبسة على مدى عقدين ونيف. وإشكالية العروبة المتجددة لا تزال قائمة.
والعروبة، كمسعى عقائدي سياسي، قائمة على افتراض لاتاريخي لوحدة المساحة القومية التي تدّعيها، سواء على أساس النسب، وهو الزعم المرجوح وإن كان يلجأ إليه عتاة العروبيين في قراءاتهم الاستيعابية للمكان والزمان، ليمسي الحديث في أدبياتهم عن “العرب البربر” و”العرب الصوماليين”، كما عن “العرب الكنعانيين” و”العرب الحميريين”، أو على أساس اللغة، مع تجيير الإبهام لمصلحة الضمّ، كما في حالات الصومال وجيبوتي وجزر القمر، حيث للغة العربية مكانة دينية في الواقع وحسب، أو على أساس الانتماء، على ضبابيته، مع تغليب الانتماء المقرّر للآخرين على الانتماء الذاتي المعلن، كما في حالة العديد من طوائف المشرق المسيحية، والتي صنّفتها أنظمتها عربية بتجاوز لخصوصياتها، وإن تمكن الأقباط، بفعل عددهم ونظرا لوزن الهوية الوطنية المصرية، من مقاومة هذا الانتماء المقرّر.
ونجاح المسعى العروبي، خطابيا في كل موقع، كان من خلال التأكيد الواهم لاستقامة العروبة كحالة غالبة وسائدة في كامل الوطن العربي المفترض، مع التشكي من اختلالها إلى حد ما محليا. فالعروبي في تونس مثلا كان شأنه أن يعيّر أهل بلاده على عدم انتظامهم في كامل الانتماء العربي، فيما غيرهم من العرب من المحيط إلى الخليج، وفق متابعته المختزلة، ينطقون بلسان حال واحد. وكذا حال المصري والعراقي، أي في كل حاضرة عربية، بدا التقصير بحق العروبة وكأنه آفة محلية، فيما رشحت الأخبار والتفاصيل انتقائيا لتؤكد استيفاء العروبة حقها في سائر الأقطار.
ثم جاءت الثورة الإعلامية التي شهدتها المنطقة في العقد الأخير من القرن الماضي بنتيجتين متضاربتين: الأولى، أنها كشفت عن وهم افتراض التماثل في الهوية الثقافية على مدى المحيط العربي، لا من حيث الهمّ الاجتماعي، ولا من حيث الميل السياسي، وخاصة لا من حيث اللغة ولا التوجهات الدينية. أي أنه لم يعد بالإمكان مجاراة وهم خروج الحالة المحلية عن الحالة العيارية المنتظمة، إذ أصبح جليا أنه لا معيارية ولا انتظام، بل تجاور لحالات متميزة، متشابهة في أوجه ومختلفة في أخرى، على مدى الفضاء العربي. بل مع اتساع الوعي بأحوال الجوار للعالم العربي في صيغته المتقوقعة المتوهمة، أصبح جليا أن أوجه التشابه والتواصل لا تقف البتة عن حدوده المفترضة. أي أن أشكال التتابع بين السوداني والتشادي ثم النيجري مثلا، أو بين السوري والتركي ثم اليوناني، أو بين اليمني وبعض الأوساط الهندية مثلا، تبدو أكثر تحققا منها بين السوداني والسوري والمغربي مثلا، دون أن تنتفي بالطبع أشكال التشابه والتواصل بين هؤلاء.
أما النتيجة الثانية، فهي أن الحالة الإعلامية الجديدة، والقائمة على افتراض فضاء ثقافي عربي نجحت بالفعل في تنمية حالة ثقافية مشتركة وتعزيزها، بل أسست للمرة الأولى في تاريخ العروبة تواصلا يتعدى النظرية ويتجاوز النخبة، بين المتابعة الثقافية في الكويت مثلا وفي الدار البيضاء. ثمة سابقة لهذا التواصل في العقود الماضية، ولاسيما الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي، كانت قد حققتها الثقافة الشعبية المصرية، من خلال الإذاعة ومن خلال الأفلام السينمائية، ولكنها كانت مركزية. أما الحالة الجديدة فتفاعلية بين مختلف ثقافات الفضاء العربي.
والمفارقة هنا أن الإطار الإعلامي الذي كشف عن وهن المزاعم القومية ذات الأبعاد السياسية ساهم ولا يزال في تعزيز جوانب ثقافية وفكرية تعزز التواصل ولكنها بحكم طبيعتها ذات أفق، ولا تسعى إلى الدمج والتأحيد واستنهاض العروبة. فالمسلسلات التركية الناطقة بالعربية السورية تلقى القدر الكبير من الترحيب والمتابعة في تونس مثلا، وترفع بأشواط من مستوى مفهومية لهجة المشرق فيها، أي أنها تعزز التقارب بين المجتمعات، ولكنها بالتأكيد لا تقتصر على البعد العربي، بل تعبر باتجاه الثقافة التركية كذلك، الحقيقية كما المتوهمة، لتقدمها، كما سائر الثقافات الحاضرة في المحيط الإعلامي، كمادة أولية برسم التوظيف ضمن الهوية الثقافية الخاصة، أي المحلية، أي التونسية.
لابد بالتالي من الحذر في فهم التعزيز الجلي في التواصل الثقافي وما يليه من التقارب المادي والمعنوي على أنه يفيد عودة العروبة بالمعنى الأولوي. بل من الأجدى هنا التمييز بين المقرّر والمُعاش. وهذا التمييز يستدعي حالة أخرى مشابهة في التدين بين إسلام العلماء وإسلام العامة.
ذلك أن الدين الإسلامي، شأنه شأن الأديان كافة، قد تلقفته الأوساط التي اعتنقته بشكل يتفاعل مع مخزونها الثقافي وأحوالها الخاصة، لتعتمده إطارا على مستوياتها الفردية والاجتماعية والوجودية، منتجة بذلك صيغا عديدة ومتحولة بفعل الزمان والمكان. وفي حين أن معظم هذه الصيغ موضعية عامودية، فإن التواصل قد تحقق أفقيا على مدى الفضاء الإسلامي بين صيغ قائمة على القراءة العلمائية للدين. وهذه صيغ تدّعي الفوقية، وترضى لها مجتمعاتها بهذا الادعاء دون أن يصاحب ذلك انصياعا لها.
فالمسلم “المعياري” على مدى التاريخ الإسلامي كان هذا الإنسان المتفاعل مع دينه القلق حينا والمطمئن أحيانا، سواء كان راضيا أو متحرجا بأن يصفه العالم بالعاصي والفاسق. هذا فيما علماء الدين اجتهدوا بتقرير رؤية نظرية لماهية الدين والتدين منقطعة عن المجتمعات المختلفة التي يعيش في الإسلام، دون أن تشهد هذه الرؤية التجسد على أرض الواقع. فالواقع الإسلامي يقوم على التجاذب المتواصل بين هذه النظرية والأحوال المُعاشة.
الحالة العروبية اليوم مشابهة لهذا التجاذب القائم على مستوى الدين، ولكن مع اختلاف هام حول الجدوى. ففي الفضاء العربي شريحة نافذة من المثقفين الذين يعتنقون فوقية في قراءاتهم الثقافية لمجتمعاتهم تقابل في شكلها ومضمونها تلك التي يتصف بها علماء الدين إزاء الممارسات والمعتقدات الشائعة في أوساط العامة. فكما حال علماء الدين، والذين يتأسفون لغياب الطاعة في هذه الأوساط، بل لاستمرار الجهل والجاهلية لديهم، غالبا ما يأتي تشخيص المثقفين لأحوال المجتمعات العربية ككم أحادي في صيغة الكشف عن أحوال القصور والتردي بل التخلف والتي تعيشها، ليكون طرح المسعى إلى الحل دعوة إلى الإصلاح الكفيل بالاستنهاض والتنوير.
غير أن هذه الجهود تنطلق من افتراض بحاجة إلى التمحيص، وهو أن وجود فضاء ثقافي عربي، ولا سيما مع نموّه الظاهر في العقود الماضية، يوازي تحقق حالة جوهرية من العروبة الجامعة. ليس من مزاعم هنا أن هذه العروبة هي مشروع سياسي، بل هي في أدبيات من يعتنقها تبقى ضمن الإطار الثقافي، ولكنها، وإن اقتصرت على الثقافي دون السياسي، لا تزال تفيد وحدة الحال، ليصبح معها المحيط العربي موضوعا يجوز التعاطي معه بالإجمال، فتأتي القراءات والتوجيهات لتشمل المجتمعات العربية كافة، وهي وإن أقرّت بخصوصيات لها، إلا أنها تنطلق من اعتبار أن الجامع بينها هو الجوهري والأساسي.
وهنا وجه الاختلاف المشار إليه آنفا بين الحالة الإسلامية والحالة العروبية. ففيما يتعلق بالإسلام، حصل توافق ضمني بين الملتزمين بالحركات السياسية الإسلامية ومعظم الباحثين الغربيين، والذين ينطلقون من النصوص في متابعتهم لأحوال المسلمين لغياب الأدوات والأبحاث الكفيلة بموازنتها، مفاده أن الصيغة العلمائية النظرية هي الإسلام بلام العهد، وأن إسلام العامة المتعدد والمتناقض بل المناقض للحداثة في أوجه عدة هو خروج عن الأصل وسائر نحو الاندثار والانتظام. والخلاف بين الجانبين، أي الإسلاميين والباحثين الغربين عامة، هو أن الانتظام المطلوب بالنسبة لأولئك هو ضمن الرؤية الإسلامية المسيسة، فيما هو بالنسبة لهؤلاء ضمن تصور “إصلاحي” منسجم مع التجربة الغربية. هذا وذاك مشروع تبديل يتجاهل صلابة الإسلام المُعاش ومكانة القراءة العلمائية والحاجة إلى التجاذب معها في التجليات المختلفة لهذا الإسلام، على مدى التاريخ والجغرافيا. وهذا وذاك يمنى بالفشل.
أما فيما يتعلق بالعروبة، فلا هي دين للمجتمعات العربية، ولا حاجة تلقائية للمحافظة على علاقة تجاذبية مع أبوية ثقافية تتجاوز الحالة المحلية، بما يقابل علماء الدين بالنسبة للإسلام، ولا ضرورة للخوض بتجارب تسير كذلك نحو الفشل. فالتجاذب جزء ثابت استقرائيا، وإن غلب التنكر له، في طبيعة الدين الإسلامي وتديّن المسلمين، أما بالنسبة للعروبة، فهو أقرب إلى الممارسة النخبوية.
فالسؤال هو حول جدوى نقد الثقافة العربية ككل، وتشخيص الداء في المحيط العربي ككل، وتطوير النظم الكفيلة بإصلاح المجتمعات العربية ككل.
الإجابة على هذا السؤال ليست حاضرة ولا مطلقة، إذ ثمة أوجه عديدة مشتركة في هذه المجتمعات، وهي جلية في البعض منها أكثر من غيرها. ولكن ثمة أوجه مشتركة بين بعض هذه المجتمعات وما يتعدى الأبعاد العربية. السياق المتوسطي، كما المحيط الهندي، والتواصل بين ما كان يعرف بالماضي بعراق العرب وعراق العجم، هي من هذه الأوجه، وتجاهلها أو جهلها يؤسس لاتهامات التخوين والتكفير والتي غالبا ما تطال من ينسجم معها.
بل يمكن القول إنه ثمة عوالم عربية متعددة، لا عالم عربي واحد وحسب، مع التنويه بأن العربية هنا تعود إلى لغة التبادل الثقافي لا إلى القومية. فمن حيث الأولويات ومن حيث التداعيات، الهمّ الخليجي ليس الهمّ المغاربي، والهمّ المصري ليس الهمّ المشرقي. وفي كل من هذه العوالم، لا يستقيم الحديث عن تطابق داخلي في الهموم، ولكن عن اشتراك في مفرداتها.
العلمانية موضوع حي في المشرق، ولكنها مصطلح يكاد أن يكون محظورا في مصر وموضوع إدانة في الخليج. التراث القومي والهوية القومية من المسائل الحساسة في المنطقة المغاربية، في حين أنه تراجع على الغالب خارجها. الحداثة ليست قلقا وجوديا مشرقيا فيما السعودية الجديدة والإمارات الجديدة تفنّد مدى تواؤمها مع التدين والتسييس الديني.
لا شك أنه من حق من يسعى إلى إدراج الإشكاليات المنتشرة على مدى هذا الفضاء العربي ضمن منظومة إصلاح واحدة أن يُقدم على ما شاء من الجهود. ولكنه قد يكون مطالبا بالإقرار بأن هذا السعي ليس بحكم الظروف الموضوعية، بل بناء على رغبة عقائدية بتجديد العروبة. ويحق للآخرين أن يروا أن العروبة ابتدأت بقميصها السياسي اختزالا تعسفيا لواقع مختلف في المجتمعات التي شملتها، وساهمت بالتالي بتأخير ظروف النهوض الذاتي بها، قد تؤدي إلى أضرار مشابه إن هي أُظهرت على أنها رداء ثقافي يناسب الجميع، فيما هي فضفاضة لبعض هذه المجتمعات وضيقة لأخرى.
فالمخزون الثقافي العربي، التعددي على مستوياته كافة، عامل ثراء دون شك، ولكن العروبة التي ترى في المجتمعات الحائزة على أشكال من هذا المخزون، حالة سياسية أو ثقافية قابلة للتأحيد قد تكون عامل إفقار، وقد يكون من الأنسب أن تستكمل تقاعدها.
الحرة