سوسن الأبطح
إزالة تمثال كريستوفر كولومبس، من حديقة «غراند بارك» في لونس أنجليس الأميركية، بعد 45 سنة من رفعه هناك، يأتي ضمن سلسلة هجومات متلاحقة في السنوات الأخيرة، داخل الولايات المتحدة وخارجها، على تماثيل فاتح أميركا، وملهم أجيالها، للتخلص منها. واللافت أن عضو مجلس المدينة ميتش أوفارال كما بعض المسؤولين يرون في هذه الخطوة الرمزية مجرد بداية على طريق الكشف عن الرواية الحقيقية الأليمة التي تنطوي على مجازر واستعباد وهيمنة، أكثر مما هي حكاية أمجاد يحتفى بها.
وإذا كان للسكان الأصليين دور الأسد في الدفع نحو إعادة محاكمة كولومبس، فإن الأمر لا يقتصر عليهم، فهناك مؤرخون وباحثون أميركيون وأوروبيون، يعتبرون أن الوقت قد حان للاعتراف بما جرى قبل أكثر من 500 سنة، مهما كان دموياً. واستبدال ما بات يسمى «يوم السكان الأصليين» بـ«يوم كولومبس» الذي يحتفى به في أكتوبر (تشرين الأول) من كل سنة، هو من المتغيرات المصحوبة بخلافات بين من يرون في تحطيم أساطير الماضي وصور كباره جريمة، ومن يعتبرون أن كشف الزيف، هو من المهام الموكلة بالأجيال الجديدة من أجل رؤية أصدق للتاريخ.
إضافة إلى تماثيل كولومبس التي هوت في ولايات أميركية عدة، أزيل واحد من العاصمة الفنزويلية كاراكاس، وآخر من بيونس آيرس، وتطالب برشلونة بتخليصها من تمثال كولومبس، أحد أشهر معالمها الذي يرتفع شاهقاً في نهاية جادة لارامبلاس الأنيقة، منذ القرن الثامن عشر. ويرى برلمان كاتالونيا أن سيرة البحار الإيطالي الذي أباد عشرات آلاف الهنود تمثل نموذجاً للغزو والسيطرة الذي انتهجته الحكومة الإسبانية ضدهم، لذا فهم يريدون إما تحطيمه أو ترحيله، وبإلغاء الاحتفال السنوي باكتشاف أميركا باعتباره احتفالاً بالغزو والاستبداد.
بين من يرى في قصة اكتشاف العالم الجديد حكاية إجرام، لا بل فاتحة سفك في تلك المنطقة من العالم، ومن يعتبرها بداية فعلية للعصر الحديث بكل ما حملته من انقلابات ومتغيرات، سيبقى كولومبس في السنوات المقبلة، وخصوصاً مع تبدل المفاهيم، وتكاثف المفاصل التاريخية، موضع جدل كبير.
هناك من يذكّرنا بأنه من دون تلك الرحلات المغامرة ما كانت لتنشأ علاقة بين أوروبا والقارة الجديدة، وما كانت البشرية لتعرف تغيراً في نمط الصيد، وسوقاً هائلة لقمح العالم القديم، وما كانت لتفتح قارة بأكملها للبن وقصب السكر، وما كنا لنعرف طعم البطاطا أو الطماطم والذرة.
ما لا شك فيه، أن ذاك البحار الإيطالي الجريء سار عكس ما كان يسلكه سابقوه من طريق، غير عارف إن كان سيصل إلى الجحيم، أو «الفردوس الأرضي» كما كان يسميه، وكله أمل في أن يرى الهند منحرفاً بسفنه نحو الغرب بدل أن يذهب جهة الشرق.
لكن ليس هذا الجزء من المسار هو الذي يحتج عليه منتقدو كولومبس، وإنما معارك الإبادة التي قادها ضد السكان الأصليين وهو يجوب الأرض الجديدة ويتنقل فيها مندهشاً بما يرى، عازماً على امتلاكها وتنصير أهلها والحصول على خيراتها. والكلام عن فظائع كولومبس ليس جديداً. واحد من أشهر وأهم الكتب في الموضوع، هو الذي أصدره الفيلسوف الفرنسي – البلغاري تزفيتان تودوروف تحت اسم «فتح أميركا… مسألة الآخر». هذا الكتاب الذي صدر عام 1992 معتمداً على دراسة نصوص كولومبس نفسه ومعاصريه ورفاقه، يعدّ كشفاً أدبياً نقدياً علمياً، لمرحلة مفصلية من عمر البشرية، لأنه درس ما حدث في العالم الجديد من وصول المكتشفين ولمدة مائة سنة. فترة اعتبر تودوروف أنها شهدت «أوسع إبادة في تاريخ الجنس البشري».
هذا الكتاب شبيه جداً في أسلوبه واعتماده نصوص من يدرسهم، بما سجله إدوارد سعيد في «الاستشراق»، إن لم يكن أكثر قسوة لضراوة حكايات التعذيب التي يسردها، والتنكيل الذي لحق بسكان البلاد.
وبمناسبة استعادة سيرة كولومبس هذه الأيام، فالكلام كثير عن مآربه من هذه الرحلة الخطرة، وإصراره على إقناع الملك فرديناند والملكة إيزابيلا الإسبانيين، لتمويل مشروعه الذي توفي قبل أن ينتهي منه أو يعرف أنه وصل إلى عالم لم يكن قد فتح على بقية أرجاء الأرض بعد.
وإذا أردت أن تستقي المعلومات من تودوروف، أروع من كتب في الموضوع ففي رأيه أن كولومبس لم يكن عاشق ذهب وكنوز، ولم يجازف بحياته من أجل ثروة عابرة، كما يتردد باستمرار، أو حتى كما كتب هو نفسه، وإنما كان يريد الغنائم ليظهر أمام الملكين أنه جاء بجني وفير.
وفي رأي تودوروف أن الأمر كان أقرب إلى غزو ديني يريد منه أن ينشر المسيحية حيث تطأ قدماه، بصفته كاثوليكياً مؤمناً، ويغنم قدر ما يستطيع كي يذهب لفتح القدس كما كان يشتهي. ويربط هذا البلغاري صاحب الدراسة الأكثر إنسانية عن فتح أميركا بين طرد كل مختلف من إسبانيا عام 1492 في حرب تطهيرية من المسلمين واليهود والقضاء على أي «آخر»، وفتح أميركا في العام نفسه، وممارسة كولومبس كل وسيلة لإرغام السكان على اعتناق المسيحية، وفي ذهنه حلم واحد لا يريد أن يتخلى عنه هو: التوجه إلى فلسطين واستعادة الأراضي المقدسة.
هكذا ربما، أكثر ما يهمنا من قصة كولومبس نحن في هذا الشرق الحزين، أن فتح أميركا، لم يكن سهلاً، وأن الرجل الحالم بأرضنا قضى قبل أن يحقق خططه، وشغل هناك، ليتأجل هذا المشروع أكثر من 450 سنة، ويبدأ مشروع آخر مع وعد بلفور.
وإذا كان للسكان الأصليين دور الأسد في الدفع نحو إعادة محاكمة كولومبس، فإن الأمر لا يقتصر عليهم، فهناك مؤرخون وباحثون أميركيون وأوروبيون، يعتبرون أن الوقت قد حان للاعتراف بما جرى قبل أكثر من 500 سنة، مهما كان دموياً. واستبدال ما بات يسمى «يوم السكان الأصليين» بـ«يوم كولومبس» الذي يحتفى به في أكتوبر (تشرين الأول) من كل سنة، هو من المتغيرات المصحوبة بخلافات بين من يرون في تحطيم أساطير الماضي وصور كباره جريمة، ومن يعتبرون أن كشف الزيف، هو من المهام الموكلة بالأجيال الجديدة من أجل رؤية أصدق للتاريخ.
إضافة إلى تماثيل كولومبس التي هوت في ولايات أميركية عدة، أزيل واحد من العاصمة الفنزويلية كاراكاس، وآخر من بيونس آيرس، وتطالب برشلونة بتخليصها من تمثال كولومبس، أحد أشهر معالمها الذي يرتفع شاهقاً في نهاية جادة لارامبلاس الأنيقة، منذ القرن الثامن عشر. ويرى برلمان كاتالونيا أن سيرة البحار الإيطالي الذي أباد عشرات آلاف الهنود تمثل نموذجاً للغزو والسيطرة الذي انتهجته الحكومة الإسبانية ضدهم، لذا فهم يريدون إما تحطيمه أو ترحيله، وبإلغاء الاحتفال السنوي باكتشاف أميركا باعتباره احتفالاً بالغزو والاستبداد.
بين من يرى في قصة اكتشاف العالم الجديد حكاية إجرام، لا بل فاتحة سفك في تلك المنطقة من العالم، ومن يعتبرها بداية فعلية للعصر الحديث بكل ما حملته من انقلابات ومتغيرات، سيبقى كولومبس في السنوات المقبلة، وخصوصاً مع تبدل المفاهيم، وتكاثف المفاصل التاريخية، موضع جدل كبير.
هناك من يذكّرنا بأنه من دون تلك الرحلات المغامرة ما كانت لتنشأ علاقة بين أوروبا والقارة الجديدة، وما كانت البشرية لتعرف تغيراً في نمط الصيد، وسوقاً هائلة لقمح العالم القديم، وما كانت لتفتح قارة بأكملها للبن وقصب السكر، وما كنا لنعرف طعم البطاطا أو الطماطم والذرة.
ما لا شك فيه، أن ذاك البحار الإيطالي الجريء سار عكس ما كان يسلكه سابقوه من طريق، غير عارف إن كان سيصل إلى الجحيم، أو «الفردوس الأرضي» كما كان يسميه، وكله أمل في أن يرى الهند منحرفاً بسفنه نحو الغرب بدل أن يذهب جهة الشرق.
لكن ليس هذا الجزء من المسار هو الذي يحتج عليه منتقدو كولومبس، وإنما معارك الإبادة التي قادها ضد السكان الأصليين وهو يجوب الأرض الجديدة ويتنقل فيها مندهشاً بما يرى، عازماً على امتلاكها وتنصير أهلها والحصول على خيراتها. والكلام عن فظائع كولومبس ليس جديداً. واحد من أشهر وأهم الكتب في الموضوع، هو الذي أصدره الفيلسوف الفرنسي – البلغاري تزفيتان تودوروف تحت اسم «فتح أميركا… مسألة الآخر». هذا الكتاب الذي صدر عام 1992 معتمداً على دراسة نصوص كولومبس نفسه ومعاصريه ورفاقه، يعدّ كشفاً أدبياً نقدياً علمياً، لمرحلة مفصلية من عمر البشرية، لأنه درس ما حدث في العالم الجديد من وصول المكتشفين ولمدة مائة سنة. فترة اعتبر تودوروف أنها شهدت «أوسع إبادة في تاريخ الجنس البشري».
هذا الكتاب شبيه جداً في أسلوبه واعتماده نصوص من يدرسهم، بما سجله إدوارد سعيد في «الاستشراق»، إن لم يكن أكثر قسوة لضراوة حكايات التعذيب التي يسردها، والتنكيل الذي لحق بسكان البلاد.
وبمناسبة استعادة سيرة كولومبس هذه الأيام، فالكلام كثير عن مآربه من هذه الرحلة الخطرة، وإصراره على إقناع الملك فرديناند والملكة إيزابيلا الإسبانيين، لتمويل مشروعه الذي توفي قبل أن ينتهي منه أو يعرف أنه وصل إلى عالم لم يكن قد فتح على بقية أرجاء الأرض بعد.
وإذا أردت أن تستقي المعلومات من تودوروف، أروع من كتب في الموضوع ففي رأيه أن كولومبس لم يكن عاشق ذهب وكنوز، ولم يجازف بحياته من أجل ثروة عابرة، كما يتردد باستمرار، أو حتى كما كتب هو نفسه، وإنما كان يريد الغنائم ليظهر أمام الملكين أنه جاء بجني وفير.
وفي رأي تودوروف أن الأمر كان أقرب إلى غزو ديني يريد منه أن ينشر المسيحية حيث تطأ قدماه، بصفته كاثوليكياً مؤمناً، ويغنم قدر ما يستطيع كي يذهب لفتح القدس كما كان يشتهي. ويربط هذا البلغاري صاحب الدراسة الأكثر إنسانية عن فتح أميركا بين طرد كل مختلف من إسبانيا عام 1492 في حرب تطهيرية من المسلمين واليهود والقضاء على أي «آخر»، وفتح أميركا في العام نفسه، وممارسة كولومبس كل وسيلة لإرغام السكان على اعتناق المسيحية، وفي ذهنه حلم واحد لا يريد أن يتخلى عنه هو: التوجه إلى فلسطين واستعادة الأراضي المقدسة.
هكذا ربما، أكثر ما يهمنا من قصة كولومبس نحن في هذا الشرق الحزين، أن فتح أميركا، لم يكن سهلاً، وأن الرجل الحالم بأرضنا قضى قبل أن يحقق خططه، وشغل هناك، ليتأجل هذا المشروع أكثر من 450 سنة، ويبدأ مشروع آخر مع وعد بلفور.
الشرق الأوسط