كوليت بهنا
في التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، احتفلت العديد من دول العالم باليوم العالمي للرجل، وهو احتفالية حديثة العهد كانت بدايتها في العام 1999. تهدف هذه الاحتفالية، بحسب اللجنة المنظمة لقضايا الشباب والكبار، إلى تسليط الضوء على الدور الإيجابي ومساهمة الرجال في الحياة على الأرض.
يلاحظ عموما أنها احتفالية لا تحظى بالاهتمام الذي تحظى به احتفالية يوم المرأة أو أي احتفالية عالمية أخرى، إذ لا زينة أو باقات ورد أو هدايا للرجال، ولا حلويات أو خطابات تنصفهم، وربما لولا وسائل التواصل الاجتماعي لما تم تذكرها أساسا.
وفيما يستغل بعض الرجال هذه المناسبة للتعبير عن مدى قسوة الحياة ضدهم كجنس بشري ولا عدالتها معهم، تخرج قلة من الأصوات النسائية كل عام، تدعم تظلّمهم وتطيّب خواطرهم وتشيد بالدور الايجابي لبعض الرجال في حياتهن، ليظل تعبير معظم الأصوات النسائية الأخرى محصورا بين استغلال هذه المناسبة لزيادة التحامل ضد الرجل، أو التعامل معها بسخرية ممتزجة ببعض المرح والفكاهة من ادعاء الرجل لمظلوميته قياسا بمظلومية المرأة.
وإذ يزداد تركيز دول العالم ومؤسساته الحقوقية ومنظماته الحكومية وغير الحكومية عاما بعد عام على قضايا المرأة والسعي لحمايتها ونيل المزيد من حقوقها ومساواتها مع الرجل، وهو تركيز وسعي نبيل وعادل لا جدال فيه، لكن في الوقت ذاته لا يمكن التغاضي عن القهر المستمر الذي يتعرض له الرجال في معظم دول العالم وفي مقدمها الدول النامية. كما لا يمكن الاستمرار بالتعامل مع الجنسين على مبدأ “ظالم ومظلوم” بالمطلق، إذ تؤكد كل الوقائع وتفاصيل الحياة بأن الرجل والمرأة ضحيتان لمنظومة كاملة من العادات والأعراف والقوانين وآليات التعليم بأنواعه. تتغير الحياة وتزداد حداثة، وتبقى هذه المنظومة عنيدة وراسخة في بدائيتها وصعوبة حلحلتها إلا ما ندر.
في نظرة عامة للرجل الشرقي، الذي نعيش معه ونعرف خبايا حياته وتفاصيلها أكثر من غيره، تبتدئ قصة معاناة الولد الذكر منذ لحظة ولادته؛ فهذا الصبي هو مشروع مزدوج للأسرة، أولهما ترسيخ سيادته كذكر، وتحضيره للمستقبل القريب ليصير معينا ومعيلا وحاملا لكل الإرث المعنوي والمادي والاجتماعي. يتشارك والداه وجداه وكل أقاربه في تسيده على إناث العائلة، ويمنح الحق المعنوي والجسدي في تعنيف وضرب شقيقاته وملاحقة أنفاسهن، وقتلتهن تحت تأثير الضغط الاجتماعي وتجنبا للعار مع أية شبهة أخلاقية تحت ذريعة ما يسمى بالجرائم بدافع الشرف. وفي الوقت ذاته، يعتبر الصبي قانونيا ـ حتى وإن كان قاصرا ـ ولي أمرهن في حال غياب الأب أو الجد أو الأعمام.
بالتالي يمكن الاستنتاج أن هذه المنظومة تقوم عن عمد بتهيئة هذا الصبي الذكر ليصير رجلا صلبا كحجر، يزداد قسوة يوما بعد يوم، تسحب من روحه العواطف ومشاعر الرحمة والحب والحنان، وترسخ مكانها كل الميول نحو العنف ضد الآخر والطغيان والاستبداد.
البكاء معيب للصبي، وإذا حصل يتم تشبيهه بالبنات الضعيفات؛ الخوف معيب بدوره ومن يخاف يتهم بالجبن، ويتم امتحانه في هذا الإطار بإيذاء الحيوانات أو قتلها أو ذبحها للتأكد من جسارة قلبه، أو يزج بأية مواقف متهورة أخرى لاكتشاف شجاعته، وحين يتجاوز الامتحانات السابقة بنجاح، يمكن اعتباره بأنه خطا نحو رجولته المرسومة بعناية، والتي ستزداد سيادة وقسوة مع زواجه وإنجابه للأطفال. مطلوب منه أن يحمل أثقالا تضاهي مقدرته في معظم الأوقات، ابتداء بإلزامه بتأمين المسكن ودفع المهر الغالي وكل مستلزمات السكن، إضافة إلى إبقاء تيقظه المطلق للحفاظ على شرف الأسرة، وإعالتها وإعالة والديه بحكم الشرائع الدينية والقانون.
وتعتبر إعالة أية أسرة في ظل الظروف المعيشية المتردية في العالم العربي عموما، واحدة من أكبر وأقسى تحديات الحياة المعاصرة. لأجل إعالة أسرته يتحمل الرجل أعباء جسدية جسيمة تضعف صحته البدنية باستمرار، ويتحمل الإذلال والمهانات الكثيرة التي لا تقتصر على إذلال مشغّليه فحسب، بل تشمل كل من يواجهه في حياته اليومية، واضطراره للخنوع التام ـ كتابع وليس كمواطن ـ أمام السلطات الأمنية والإدارية والقانونية والدينية والطائفية، التي تحرص جميعها على امتحان ولائه وتكريس قهره وإذلاله وترسيخهما مع كل موقف، أو في كل موعظة، أو خطاب.
رحلة هذا الكائن المسمى “رجل” رحلة قاسية؛ تكرس سيادته كذكر في بعض الأوقات، وتكرس إذلاله في أوقات أخرى، بحيث يعود لبيته وقد تهالك من التعب والقهر اللذين سيترجمهما غضبا وقسوة وعنفا على إناث بيته، فيما الصبيان الذكور، وإن شملتهم موجة غضبه وقسوته، إلا أنها تعتبر درسا من الدروس المفيدة التي يتعلمونها ويعيدون إنتاجها في المستقبل القريب ويصيرون نسخة مطورة من “بابا” المهيب، لتتكرر دائرة العنف، ويزداد ضخ الحياة لرجال أشداء المظهر، بلا أرواح. هم في النهاية ضحايا لكل هذا القهر.
طفلك، الصبي الصغير في بيتك وأمامك الخيار: إما أن تساعده ليصير رجلا رحيما وعادلا، سعيدا بكرامته يشارك ببناء الحياة بكل طاقته الإيجابية، أو يمكنك بسهولة تركه لمنظومات الحياة التقليدية لتصنع منه رجلا مضافا مقهورا، يرغب في أن يحطم العالم برمته.
الحرة