السلايدر الرئيسيتحقيقات
تأهُّبٌ روسيٌّ للتعاطي مع مغامرات كييف المرتقَبة… ونماذجُ عن نزعةِ التهوُّر الأمريكيّ في أوكرانيا!
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ لم يكد يجفُّ حِبرُ البيان الصادر نهار أمس الثلاثاء عن حلف شماليّ الأطلسيّ بخصوص تداعيات قيام خفر السواحل الروسيّ باحتجاز ثلاثِ سفنٍ أوكرانيّةٍ منذ مطلعَ الأسبوع الجاري، إثر دخولها في المياه الإقليميّة الروسيّة بالقرب من بحر آزوف ومضيق كيرتش بطريقةٍ غيرِ قانونيّةٍ، حتّى سارعت موسكو إلى الردّ بشكلٍ غيرِ مباشِرٍ على ما تضمَّنه هذا البيان من مواقفَ وتأكيداتٍ على اعتزام الحلف مواصلة تقديم الدعم الفعليّ لكييف، وذلك عندما أعلن المتحدِّث باسم المنطقة العسكريّة الروسيّة الجنوبيّة فاديم استافييف اليوم الأربعاء أنّ بلاده قرَّرت تعزيز حماية مجالها الجوّيّ عن طريقِ نصبِ منظومةٍ دفاعيّةٍ جديدةٍ من بطّاريّاتِ صواريخِ “إس 400” قبل نهاية العام الحاليّ في شبه جزيرة القرم، لتُضاف إلى ثلاثِ منظوماتٍ مماثلةٍ كانت موضوعةً في الخدمة أصلًا منذ إعادة ضمّ شبه الجزيرة للسيادة الروسيّة بموجبِ استفتاءٍ عامٍّ أُجريَ بهذا الشأن عام 2014، وهو القرار الذي يعني في إطار ما يعنيه أنّه يندرج في سياقِ خطوةٍ استباقيّةٍ ترتكز في الأساس على إدراك إدارة الرئيس فلاديمير بوتين المبكِّر لاحتمالات قيام بعض دول الارتصاف الأمريكيّ – الأطلسيّ – الأوروبيّ بخوضِ مغامراتٍ تهوُّريّةٍ، عبْر البوّابة الأوكرانيّة، لزعزعة ركائز الأمن القوميّ الروسيّ، سعيًا إلى قلب الموازين المائلة باضطرادٍ لصالح موسكو على المسرح الدوليّ، ولا سيّما بعدما بات في حُكم المؤكَّد أن سلوكيّات دول الارتصاف المذكور في أوكرانيا خلال الأعوام الأربعة الماضية، أيْ منذ دعم الحركة الانقلابيّة للإطاحة بنظام الرئيس فيكتور يانوكوفيتش ولغاية يومنا الراهن، قامت في مجملها على مبدأ التهوُّر.
وإذا كان اثنان من الخبراء المتخصِّصين في العلاقات الدوليّة لا يمكن أن يختلفا على أنّ أكثر المعادلات وضوحًا في مجال تحديد خلفيّات النوايا المبيَّتة عند كلٍّ من الروس والأميركيّين حيال بعضهم البعض هي تلك التي المتعلِّقة باختبارات القوّة المتبادَلة بين الجانبين، بحيث لا تزال موسكو تختبر قوّة الولايات المتّحدة في أوكرانيا بينما لا تزال واشنطن تختبر قوّة روسيا في سوريا، فإنّ خلاصة هذه الاختبارات التي تدلّ في هذه الأيّام إلى ظهورِ تفوُّقٍ روسيٍّ واضحٍ في الحالتين الأوكرانيّة والسوريّة على حدٍّ سواء، مقابلَ إخفاقٍ أمريكيٍّ – أطلسيٍّ – أوروبيٍّ أكثر وضوحًا، هي التي تفتح باب التكهُّنات بشأن احتمالات القيام بالمغامرات التهوُّريّة المذكورة على مصراعيه، الأمر الذي ما لبث أن تجلّى في فحوى الموقف الأخير الذي عبَّر عنه الرئيس بوتين عندما اتّهَم نظيره الأوكرانيّ بترو بوروشينكو بافتعالِ مواجهةٍ بحريّةٍ مع روسيا في البحر الأسود من أجل زيادة نسبة شعبيّته قبل الانتخابات المقرَّر إجراؤها العام المقبل، قائلًا “إنّ الغرب مستعدٌّ للصفح عن أخطاء ساسة أوكرانيا لأنّ ذلك يصبُّ في صالح الرواية المعادية لروسيا التي تروِّجها كييف”، على حدِّ تعبيره، تمامًا مثلما تجلّى أيضًا لدى توقيع الرئيس بوروشينكو اليوم على مرسومٍ يقضي بفرضِ الأحكام العرفيّة في البلاد، بمعنى أنّه وضَع أوكرانيا في حالةِ حربٍ حتّى إشعارٍ آخَر، بحسب ما صرَّح به المتحدِّث الصحافيّ باسم الرئاسة في كييف سفياتوسلاف تسيغولكو الذي قال إنّ المرسوم سيؤثِّر على عشرِ مناطقَ إداريّةٍ، وأهمّها منطقتيْ لوغانسك ودونيتسك، إضافةً إلى المياه الداخليّة في مضيق كيرتش الذي عبرَت منه السفن العسكريّة الأوكرانيّة الثلاث نهار الأحد الماضي باتّجاه حدود الجرف القاريّ الروسيّ، ما أدّى إلى احتجازها على الفور.
علاوةً على ذلك، فإنّ ما يعزِّز الاعتقاد بأنّ هذه الحادثة من شأنها أن تفتح بابًا عريضًا للمغامرات التهوُّريّة، أوكرانيًّا وأمريكيًّا وأطلسيًّا، يتمثَّل في أنّ الولايات المتّحدة، على سبيل المثال وليس الحصر، ضربت عرض الحائط منذ الأيّام الأولى لبدء حركة الاحتجاج في “ميدان الاستقلال” وسط كييف عام 2014 بالمبدأ القائل إنّه من غيرِ الحكمة أن يتحدّى المرء رجلًا قويًّا بالقرب من مدخل منزله، والرجل القويّ هنا هو فلاديمير بوتين بالطبع، وذلك عندما أوفدَت مساعدة وزيرة الخارجيّة للشؤون الأوروبيّة والآسيويّة فيكتوريا نولاند لمؤازرة المحتجّين في أماكن تجمُّعهم، وللتعهُّد أمامهم بتقديم مئات الملايين من الدولارات من أجل دعمهم ومساعدتهم على مواصلة حراكهم، الأمر الذي بدا بحدِّ ذاته مغامرةً تهوُّريّة بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى، وهو ما أكَّد عليه رئيس لجنة الشؤون الاستخباراتيّة في الكونغرس الأمريكيّ مايكل روجرز بعد مرورِ أسابيعَ قليلةٍ فقط، وخصوصًا عندما طالب وكالة المخابرات المركزيّة (سي آي إي) بتصحيح أخطائها عن طريقِ إجراءِ إعادةِ تقييمٍ لتقاريرها السابقة حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه ردود الأفعال الرسميّة الروسيّة على تدخُّل الولايات المتّحدة في الشأن الأوكرانيّ، ولا سيّما بعدما كان ردّ الفعل الأوّل قد تجلّى لتوِّه وقتذاك من خلال تنظيم الاستفتاء العامّ وإعادةِ ضمّ شبه جزيرة القرم من دون إراقةِ قطرةِ دمٍ واحدةٍ، وبشكلٍ يتعارَض بالطبع جملةً وتفصيلًا مع المصالح الحيويّة الأميركيّة.
وإذا كان سيل الأمثلة على عدد المرّات التي استرسل فيها البيت الأبيض في ارتكاب الخطأ تلو الآخَر في الحالة الأوكرانيّة له أوّلٌ وليس له آخِر، فإنّ أفدَح هذه الأخطاء على الإطلاق، كان قد تمثَّل في عدم الأخذ بنصائحِ وتوصياتِ وزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق والشهير بلقب “الثعلب العجوز” هنري كيسينجر التي قدَّمها في سياق مقاله الجريء المنشور في صحيفة “ناشيونال إنترست” في شهر شباط (فبراير) عام 2016، وخصوصًا عندما دعا إلى ضرورة النظر إلى روسيا كعنصرٍ رئيسيٍّ في أيِّ توازنٍ عالميٍّ جديدٍ عوضًا عن اعتبارها الخطر الوحيد والمطلق الذي يهدِّد الولايات المتّحدة، مشدِّدًا على أنّه في ظلِّ تكوُّن عالمٍ متعدِّد الأقطاب، فإنّ من شأن تنسيق الجهود الروسيّة والأميركيّة، وبالتشاور مع الدول الكبرى الأخرى، أن يُفضي إلى إيجادِ هيكليّةٍ لصياغة الحلول السلميّة في منطقة الشرق الأوسط، وربّما في غيرها من مناطق العالم، بما في ذلك أوكرانيا التي يُفترَض أن تتركَّز الجهود المبذولة من أجل فضِّ أزمتها على ضرورة دمجها إطار هيكليّة الأمن الدوليّ والأوروبيّ، بحيث تصبح جسرًا يربط بين روسيا والغرب، عوضًا عن أن تكون منطلقًا لكي يتمترس وراءه هذا الجانب أو ذاك ضدَّ الآخر… وحسبي أنّ هذه النصائح والتوصيات التي أراد “الثعلب العجوز” من دون أدنى شكٍّ إيصالها وقتذاك بشكلٍ مباشِرٍ إلى مسامع إدارة الرئيس باراك أوباما، إنّما تهدف في الأساس إلى السعي في اتّجاه تخفيف حدّة الاحتقان الذي يكاد يُفجِّر ما تبقّى من قواسمَ مشترَكةٍ تجمع ما بين الولايات المتّحدة وما بين روسيا.. وحسبي أنّ إعادة التذكير بها في هذه الأيّام الصعبة والخطيرة قد تدفع الرئيس دونالد ترامب، عاجلًا أو آجلًا، إلى دراستها مجدَّدًا وأخذها على محمل الجدّ.. والخير دائمًا من وراء القصد.