أقلام مختارة

الإخوان المسلمون يبدلون شعاراتهم

بابكر فيصل

بابكر فيصل

انعقد في الخرطوم الأسبوع الماضي المؤتمر العام التاسع للحركة الإسلامية (فرع جماعة الإخوان المسلمين في السودان). وشهد المؤتمر حدوث بعض التغيير في الشعارات التي ظلت ترفعها الحركة وتستخدمها في استقطاب العضوية وتحريك مشاعر وعواطف الجماهير.

ومن أبرز الشعارات التي طالها التغيير كان ذلك الشعار الأثير لدى عضوية الجماعة والذي يقول: “في سبيل الله قُمنا/ نبتغي رفع اللواء.. لا لدنيا قد عملنا/ نحن للدين فداء.. فليعُد للدين مجده/ أو ترق منَّا دماء.. أو ترق منهم دماء.. أو ترق كل الدماء”.

وقد تم تحوير الشعار ليصبح كالتالي: “في سبيل الله قمنا/ ونعمنا بالإخاء.. لا لدنيا قد عملنا/ نحن في الحق سواء.. فليعد للدين مجده/ فليدم ذاك النقاء”.

غني عن القول إن وظيفة الشعارات السياسية تتمثل في تكثيف المبادئ والأفكار التي تعتنقها جماعة ما، واختصارها في كلمات محدودة تعكس الكثير من المضامين التي يُشيد عليها البنيان الفكري والأيديولوجي لتلك الجماعة.

يبدأ الشعار أعلاه بالقول: “في سبيل الله قمنا/نبتغي رفع اللواء”، وهو ما يشير إلى مبدأ أساسي من المبادئ التي تقوم عليها جماعة الإخوان المسلمين، وهو أنها جماعة دينية تسعى لاستعادة الأمجاد الغابرة للمسلمين عبر دعوة رسالية تتخطى حدود “الوطن” وتستند إلى مفهوم “الأمة” الذي يعتبر أن الإسلام هو وطن جميع المسلمين في أية مكان في العالم.

هذا المفهوم الرسالي لا يعترف بأية تفويض أرضي نابع من البشر (الشعب)، بل هو يعمل على تنفيذ إرادة السماء كما تفهمها الجماعة، ولذلك فإنه عندما سأل الأديب السوداني الراحل الطيب صالح، زعيم جماعة الإخوان المسلمين في السودان والعقل المدبر للانقلاب العسكري الذي أوصلها للسلطة حسن الترابي، السؤال التالي: من الذي فوضكم على أن تحملوا أهل السودان على ما يكرهون؟ أجابه الترابي بالآية القرآنية “ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين”.

هذه الإجابة تنبئ بأن التفويض آت من السماء وهو مربوط بوعد وراثة الأرض بأكملها، والخلاصة المنطقية لهذا الاعتقاد هي أن التفويض الإلهي لا يمكن أن يكون ناقصا، وبالتالي فإن من يحوز عليه لا بد وأن يكون قد امتلك الحقيقة المطلقة التي تُخوِّل له فعل كل شيء من أجل إنفاذ الإرادة الإلهية وتحقيق حلم وراثة الأرض.

ثم يمضي الشعار ليقول “لا لدنيا قد عملنا/نحن للدين فداء”، وهنا أيضا تؤكد الجماعة أن أهدافها النهائية مرتبطة حصريا بإنجاز مرامي الدين، وأن الأفراد المنتمين إليها لا يشغلون أنفسهم بتحقيق مآرب دنيوية مرتبطة بالسلطة (الدنيا)، ولكن هل حقا عكست التجربة العملية صدقية هذا الادعاء على أرض الواقع؟

قد أثبتت تجربة حكم الإخوان المسلمين الممتدة منذ ثلاثة عقود في السودان، أن الدين لم يكن إلا مطية ركبتها الجماعة من أجل الوصول للسلطة وتحقيق الأهداف الدنيوية التي لا تمت للقيم الدينية الأساسية بصلة، حيث استشرى الفساد بين منسوبيها وفي أجهزة الدولة وتدهورت الأخلاق العامة بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث، بينما ساد نمط من التدين الشكلي الذي يحتفي بالمظاهر الخارجية مثل إطلاق اللحية وإظهار زبيبة الصلاة، ولا يكترث للقيم الأساسية مثل الحرية والعدل والصدق والأمانة.

وهو الأمر الذي اعترف به الترابي نفسه في برنامج “شاهد على العصر” على قناة الجزيرة عندما قال إن الفساد انتشر في مفاصل الدولة “تحت سمعي وبصري.. وعجزي”. وأوضح أن السلطة (الدنيا) قد فتنت أعضاء جماعته وانساقوا خلفها لأنهم منذ البداية كانوا “يجهلون أن السلطة يمكن أن تفتن من تربى وتزكى في حركة دينية عشرات السنين”.

أما بقية الشعار: “فليعُد للدين مجده/ أو تُرق منَّا دماء.. أو ترق منهم دماء.. أو ترق كل الدماء”، فهي تعكس فكرة جوهرية في أيديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين، وهي استخدام العنف لحسم الصراعات السياسية مع مختلف القوى. بالطبع فإن هذه الفكرة تستند إلى سابقتها المتمثلة في امتلاك الحقيقة المطلقة ذلك لأن من يقف في جانب الصواب الدائم لا بد أن يكون بالضرورة إقصائيا لا يعترف بأية مشروعية لمن يعترضون على موقفه ولا يرى فيهم إلا أعداء يتوجب الخلاص منهم بكل السبل.

وقد جاء في ديباجة دستور الحركة الإسلامية السودانية ما يلي: “إن الحركة الإسلامية قد كافحت بالإسلام العلمانية والماركسية واشتراكية هاربة من مضارب الدين وديمقراطية مستنكفة عن التسليم لرب العالمين”.

لا شك أن “مكافحة” الحركة الإسلامية للتيارات المذكورة وغيرها من الأحزاب الوطنية الأخرى، وحربها على الديمقراطية لم تتم بالوسائل السلمية المعروفة، بل استخدمت فيها جميع أنواع العنف والتعذيب والقتل، وأريقت فيها دماء الأبرياء داخل المعتقلات سيئة الذكر المعروفة باسم “بيوت الأشباح”، كما حصد رصاص مليشيات الإخوان أرواح المئات من المواطنين في التظاهرات السلمية وكان آخرها انتفاضة أيلول/سبتمبر 2013.

ليس هذا فحسب بل إن الجماعة زجت بالمئات من الشباب الأبرياء في أتون الحرب التي خاضتها في جنوب السودان تحت شعار الجهاد، فضلا عن إزهاق أرواح الآلاف من العزل المسالمين في دارفور وجبال النوبة.

كل هذا التعذيب والقتل والترويع تم باسم العقيدة الإسلامية وتحت شعار “فلترق كل الدماء” الذي قررت الحركة في مؤتمرها الأخير أن تتخلى عنه، فهل يؤدي تغيير الشعار وحده إلى تحولها لحركة مدنية سلمية؟

بالطبع لا، إذ ما تزال المبادئ والأفكار التي ألهمت ذلك الشعار موجودة، وما يزال منهج الاستعلاء وادعاء امتلاك الحقيقة هو الذي يتحكم في مسيرة الحركة، وبالتالي فإن ممارسة العنف والإقصاء والقتل وخطف السلطة بالقوة ستظل هي الوسائل المعتمدة التي تتبناها الحركة في نشاطها السياسي وإدارة الخلافات مع الآخرين.

وطالما ظلت الحركة الإسلامية ترتدي زي العقيدة “في سبيل الله قمنا”، وتدعي أن ممارستها للسياسة تهدف لأن “يعُد للدين مجده” في خلط ضار بين المقدس والمدنس، فإنها ستبقى حبيسة ذات المنهج الاستئصالي العقيم ولن تفارقه قيد أنملة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق