كيرلس عبد الملاك
منذ أكثر من سبع سنوات، وقبل اندلاع ثورة 25 يناير بأسابيع جمعتني جلسة مع أحد الأصدقاء أخبرني فيها أن هناك دعوات للتظاهر ضد الرئيس المصري محمد حسني مبارك، وبرغم تحمس هذا الصديق وشعوره بأهمية الحدث وارتفاع احتمالية تأثيره على أرض الواقع استخففت بتوقعاته وتصورت أن قمع النظام المصري أقوى من أي مظاهرة فقد كان الأمن مستتب، وحالة الشارع المصري معتادة، لم تكن الناس تتحدث في الشؤون السياسية، ولم يكن أي مواطن مصري يتخيل انفجار ثورة شعبية تطيح بالنظام الحاكم، حتى صفوة المجتمع ونخبته من ساسة ومثقفين لم يتوقعوا أبعد من الاحتجاج الشعبي المحدود الذي سرعان ما ينتهي ليعود الشارع إلى طبيعته، إلا أن المستقبل حمل الكثير من المفاجآت.
كان الرئيس مبارك قد عبر بعمره إلى ما بعد الثمانين، وصارت الرئاسة بالنسبة له حالة روتينية أقرب إلى الملكية منها إلى الجمهورية، وقد ضعف ذهنه عن متابعة الشارع ربما لظنه أن المصريين أبعد ما يكون عن فقه الحرية، كما كان يظن الكثيرين من المثقفين أيضا آنذاك، لكن الغضب المتراكم كان قد وصل إلى حد مرتفع لم تعي أجهزة الدولة خطورته لأن القوة الأمنية في الشارع بثت الطمأنينة في قلوب المسؤولين ما دفعهم للتراخي في الاهتمام بالحدث، فأسوأ السيناريوهات تصورا لهم كان التظاهر أو الاحتجاج الذي ينتهي أمره بالفض الأمني.
اشتعلت الثورة المصرية في غفلة من الزمن وأطاحت برئيس الجمهورية الذي جلس على كرسي حكم مصر لمدة ثلاثين عامًا، في زمن قياسي، وكانت نقطة بدايتها هي الدعوة للتظاهر التي تفاعل معها الشباب الحر ثم اندمجت معها الجماهير الغاضبة العاطشة للحرية، ثم استولى عليها الإخوان المسلمين والتيار الديني السلفي بخبث ومكر ودهاء فانتهت بالفشل الذريع الذي تجني مصر ثماره إلى يومنا هذا، ولم يتوقف ذلك الاستيلاء إلا بثورة ثانية كان وقودها الغضب من غياب حكمة إدارة الدولة عن رئيس الجمهورية الإخواني وحاشيته.
لقد أدركت أجهزة الدولة المصرية أن نقطة بداية الثورة هي الدعوة للتظاهر فعملت جاهدة طوال الفترة الماضية على تجريم التظاهر واعتقال أعداد كبيرة ممن يُخشى من سعيهم للتظاهر ضد السلطة، لكنها إلى الآن لم تدرك أن السبب الرئيسي للثورة الشعبية المصرية هو الغضب المتراكم الذي يتجاهله الحاكم لسبب أو لآخر ثم يفاجأ بأنه ظهر على سطح الأحداث مهددًا وجوده على كرسي الحكم بل ومهددًا حريته أيضًا.
في الوقت الحالي، الذي يتابع الشارع المصري بعمق وإنصاف سوف يجد غضبًا مكتومًا في القلوب ظاهرًا بوضوح على وجوه الناس وفي أحاديثهم السياسية الحذرة، وفي مقدمة أسباب الغضب ارتفاع الأسعار الجنوني الذي أصبح واقع مؤلم مستمر في التضخم والتمدد، لا تتدخل أجهزة الدولة لوقفه وأظن أنها لا تستطيع بسبب المخطط الاقتصادي (الذي تبنته بقرار أرى أنه لم يدرس بعمق)، اللهم إلا بأحاديث رئاسية تصدر من حين لآخر تحاول تهدئة الغضب أو خفض حدته.
في ظني، أية محاولة ناجحة للتظاهر الشعبي المنظم في المستقبل سوف تسفر عن نتيجة سياسية مغايرة للخطط الرسمية المُنتظر تطبيقها على أرض الواقع، لذلك تسعى أجهزة الدولة المصرية بكل ما تملك من قوة ونفوذ إلى أن توقف هذا السيناريو من المنبع دعمًا لما تتصور أنه استقرار سياسي وأمني للدولة، حتى الدعوات الجماهيرية على مواقع التواصل الاجتماعي التي تبزغ في مجالات شتى صارت محط اهتمام واستجابة سريعة من قبل المسؤولين المصريين خوفا من تطور عواقبها، عدا ما يتعلق منها بالديمقراطية وتداول السلطة.
الدعوة للتظاهر هي البداية المنظمة للثورة الشعبية، فهل يمكن أن تندلع ثورة مصرية ثالثة بدون بداية منظمة؟
حسبما أتصور، إذا تساوى الشعور بالخطر من المستقبل السياسي في قلوب المصريين مع الشعور بالخطر من قيام ثورة شعبية ليس بعيدًا أن نرى تمرد شعبي غير منظم يقوده الغضب الجمعي، في تلك الحالة ستكون النتائج وخيمة بعيدة كل البعد عن السيطرة الأمنية.
الذي يظن أن الاستقرار يقوم على الجهود الأمنية فقط، تلك المصاحبة للبيانات الرسمية الناعمة المعسولة الموجهة للشعب والمخالفة لتوجهات ومخططات أجهزة الدولة واهم، فهذه الجهود الأمنية لا تتعدى الحجر الموضوع في فوهة أنبوب تنهمر منه المياه باندفاع وغزارة، فوضع هذا الحجر في فوهة ذلك الأنبوب لسدها ربما يخفي المياه عن الأنظار لبعض الوقت لكن سيأتي وقت فيه تنطلق المياه بقوة أكثر من السابق حينما يضعف الحجر عن إيقاف تدفق المياه المندفعة المضغوطة في ذلك الأنبوب.