خيرالله خيرالله
يدلّ ما تشهده الجزائر من تغييرات على صعيد حزب جبهة التحرير الوطني، بما في ذلك الإعلان عن تشكيل قيادة جديدة “موقتة” للحزب، على أن التغيير في البلد بدأ يأخذ شكلا جديا. التغيير في الجزائر قادم. السؤال كيف ومتى وما الشكل الذي سيتخذه؟
يبدو أنّ هناك شعورا بأن الولاية الخامسة للرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة لن تمرّ بسهولة وأن لا مفرّ من البحث عن بديل منه. لا يمكن أن تبقى الجزائر محكومة، أقلّه شكليا، من رجل مريض عاجز عن توجيه خطاب إلى شعبه. ففي السنوات الخمس التي مرت منذ إصابة الرئيس الجزائري بجلطة، لم يعد في الشارع الجزائري غير سؤال واحد: من الذي يحكم البلد فعلا؟
يتبيّن الآن أن المجموعة التي حكمت البلد، ولا تزال تحكمه، فيما بوتفليقة مقعد منذ العام 2013 لم تعد قادرة على التلطي إلى ما لا نهاية له بالرجل الذي استطاع من دون أدنى شكّ تأمين فترة من الهدوء النسبي. امتدت هذه الفترة منذ العام 1999 بعد حرب أهلية استمرّت نحو عشر سنوات راح ضحيتها عشرات الآلاف.
لا بدّ من الاعتراف بأنّ بوتفليقة حقّق الكثير، بما في ذلك بعض طموحاته الشخصية، بدءا بتصفية حسابات قديمة مع المؤسسة العسكرية. حالت تلك المؤسسة دون خلافته هواري بومدين في بداية العام 1979 حين كان لا يزال شابا قادرا، حسبما كان يعتقد، على ارتداء بذلة الرئيس الراحل.
في كلّ ما قام به في السنوات الأخيرة، خصوصا عندما عزل الجنرال محمد مدين (توفيق) الحاكم الفعلي للجزائر طوال سنوات، من خلال الاستخبارات العسكرية، أظهر بوتفليقة أنه رجل قادر على اتخاذ قرارات كبيرة وجريئة. الأهمّ من ذلك كلّه، تبيّن أن المجموعة المحيطة به، وفي مقدّمتها شقيقه سعيد، تعرف ماذا تريد، وهي تمتلك ما يكفي من الخبرة والحنكة ما يمكنها من الإمساك بخيوط اللعبة السياسية، وذلك بمجرد أنّها تحيط برئيس الجمهورية وترعاه في مكان إقامته في زيرالدا بعيدا عن المقر الرسمي للرئاسة، أي المرادية.
من سيكون الرئيس المقبل للجزائر وهل في استطاعة المجموعة المحيطة ببوتفليقة فرض الرئيس الجديد؟ من الواضح أن معركة انتخابات الرئاسة المقررة في نيسان- أبريل المقبل، أو في أيّار- مايو من السنة 2019، بدأت من الآن. لم يكن إعلان جمال ولد عبّاس الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، وهو الحزب الذي بقي طويلا الحزب الحاكم، عن أن لا خيار آخر غير ترشيح بوتفليقة لولاية خامسة أواخر تشرين الأوّل- أكتوبر الماضي بمثابة مفاجأة. كان هذا الإعلان الصادر قبل شهرين عن ولد عبّاس، الذي أُقيل لاحقا، طبيعيا في ضوء السعي إلى كسب الوقت ليس إلّا.
هناك الآن قيادة جديدة للحزب. الأكيد أن المجموعة التي تحيط ببوتفليقة وراء تشكيل هذه القيادة والدعوة إلى مؤتمر عام لجبهة التحرير الوطني، تمهيدا لاختيار مرشّح للانتخابات الرئاسية المقبلة يؤمن الحماية اللازمة التي سيحتاج إليها أفراد المجموعة مستقبلا.
الثابت أن هذه المجموعة التي أضعفت المؤسسة العسكرية، إلى حدّ كبير، لا يزال عليها التعاطي مع من لا يزال يمثل هذه المؤسسة، أي مع نائب وزير الدفاع أحمد قايد صالح. هناك علامات استفهام عدّة في هذه المرحلة تتناول مستقبل نائب وزير الدفاع الذي يرمز إلى مشاركة للعسكر، وإنْ في حدود ضيقة، في حكم الجزائر.
في ظلّ هذه الهموم الآنية الملحّة التي حتمت على المجموعة المحيطة ببوتفليقة اللجوء إلى ما يسمّى “الشرعية الثورية والتاريخية” لجبهة التحرير الوطني لاختيار خليفة للرئيس الحالي، جاءت دعوة الملك محمد السادس من أجل “إحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور” بين المغرب والجزائر. كشف اقتراح العاهل المغربي مدى العجز الجزائري عن التعاطي مع الواقع ومع تطور الأحداث ومع التحديات المستقبلية.
وأكد هذا العجز استمرار الهروب إلى الأمام الذي بات اختصاصا جزائريا. فبدل الاستجابة للدعوة الصادقة التي أطلقها محمد السادس في الذكرى الثالثة والأربعين لـ”المسيرة الخضراء”، جاءت الدعوة الجزائرية إلى انعقاد اجتماع على مستوى وزراء الخارجية لدول الاتحاد المغاربي بمثابة تسخيف للسياسة الخارجية الجزائرية نفسها، التي يعبر عنها على الصعيد الداخلي ذلك البحث عن كسب للوقت لاختيار بديل من بوتفليقة.
إذا كان الردّ الجزائري على الدعوة الصادرة عن محمد السادس تعني شيئا، فهي تعني أن بوتفليقة لم يستطع تغيير أهمّ ما كان عليه تغييره في الجزائر، أي الخروج من عقدة المغرب.
هناك بحث عن “شرعية” لرئيس جديد عبر جبهة التحرير الوطني، الحزب الذي قاد حرب الاستقلال. تبين مع مرور الوقت أن هذا الحزب كان أسير المؤسسة العسكرية لفترة طويلة. حسنا، استطاع بوتفليقة كسر هيمنة كبار الضباط على جبهة التحرير، لكنه لم يستطع، مع الحلقة الضيّقة المحيطة به، الذهاب إلى أبعد من ذلك عندما يتعلّق الأمر بالسياسة الخارجية.
يصعب التكهن بما ستؤول إليه الأوضاع في الجزائر. لكنّ الثابت أن هبوط سعر برميل النفط إلى حدود الستين دولارا وما هو أقلّ من ذلك، سيزيد الأمور تعقيدا، أقله داخليا. لن تكون مهمّة إيجاد بديل من بوتفليقة عبر “شرعية” حزب أكل الدهر عليه وشرب، سهلة في بلد لم يستطع تطوير نفسه واقتصاده، على الرغم من كل الثروات التي يمتلكها، وبقي أسير سعر النفط والغاز…
سقط عهد بوتفليقة في امتحان السياسة الخارجية. بقي أسير وهم اسمه “قضية الصحراء”. صنع النظام في الجزائر هذا الوهم وأصبح رهينة له. لم يستطع بوتفليقة كسر الحلقة المغلقة التي دارت فيها الجزائر. كان ذلك ممكنا عبر الاعتراف بأن قضيّة الصحراء قضية مفتعلة من ألفها إلى يائها، وهي قضية عالقة بين المغرب والجزائر، ولم تعد هناك في أيامنا هذه فائدة تذكر من ابتزاز المغرب عبرها.
تعالى المغرب على الجرح. قال الملك محمّد السادس في سياق إطلاق مبادرة إحداث آلية سياسية مشتركة إن المغرب “منفتح على الاقتراحات والمبادرات التي قد تتقدم بها الجزائر، بهدف تجاوز حالة الجمود التي تعرفها العلاقات بین البلدین الجارین الشقیقین. وتتمثل مهمة هذه الآلیة في الانكباب على دراسة جمیع القضایا المطروحة، بكل صراحة وموضوعیة وصدق وحسن نیة، وبأجندة مفتوحة ودون شروط أو استثناءات”.
لو كان لحزب جبهة التحرير الوطني شرعية تاريخية، لكان محمد صالح يحياوي، مرشّح الحزب، خلف بومدين في العام 1979 وليس مرشّح المؤسسة العسكرية الشاذلي الشاذلي بن جديد. لو كان لهذا الحزب شرعيته لما كان عبدالعزيز بوتفليقة وصل إلى الرئاسة في العام 1999 بفضل المؤسسة العسكرية وليس بفضل أي جهة أخرى.
تبحث المجموعة المحيطة ببوتفليقة حاليا عن شرعية لرئيس جديد تختاره هي لخلافة الرئيس الحالي، وذلك حماية لمصالحها. تحتاج هذه المجموعة، قبل أيّ شيء آخر، إلى تصالح مع الواقع في الداخل الجزائري وخارجه. هذا كلّ ما في الأمر. كلّ ما عدا ذلك دوران في فلك أوهام مثل وهم قضية الصحراء التي تعبّر عن سياسة ابتزاز لا أفق لها…
العرب اللندنية