حازم الأمين
في كل عام تضعنا “أريج” (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية)، نحن الصحافيين العرب، أمام أسئلة المهنة، وذلك في مؤتمرها السنوي الذي ينعقد في البحر الميت، والذي يحضره هذه السنة أكثر من 400 صحافي من حول العالم.
ينعقد المؤتمر اليوم في ظل حدث صحافي عربي ودولي هائل هو جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. ولعل المؤتمر والجريمة يمثلان مناسبة للتأمل بأحوال المهنة وبأهوالها. ذاك أن ثمة مؤشرين غير منسجمين يتمثلان في أن جريمة أصابت الجسم الصحفي كانت من البشاعة إلى حد أشعرنا أن المصير الذي انتهى إليه زميلنا أريد له أن يكون درسا لنا أيضا، والجريمة حملت من الدلالات ما يفوق قدرتنا على توقعها، ذاك أن جثة الفقيد لم يعد لها أثر، ولهذا بعد رمزي تحمله جريمة القتل. أما المؤشر الثاني فيتمثل في أن الصحافة خاضت أعنف وأصدق معاركها في ظل هذه الجريمة، أثبتت قدرة على حماية قيم العدالة والحقيقة، لا تتمتع بها أي سلطة أخرى.
وفي مقابل قصة النجاح والشجاعة التي أبدتها الصحافة الغربية عموما والأميركية خصوصا على هذا الصعيد، كشفت الجريمة أيضا حال البؤس والارتهان الذي يعيشه الإعلام العربي، ذاك أن الأخير كان جزءا من الحروب الأهلية الطاحنة فيما القراء والمشاهدون والمستخدمون ليسوا شركاء، بل مجرد متلقين سلبيين لمحتوى إعلامي تقرره لهم أنظمة تملك وسائل الإعلام.
العالم صار في مكان آخر تماما، فيما نحن نبحث عن وسيلة لتفادي أن تفنى أجسامنا في سفارة ما، أو أن نشيح بوجهنا عن تقدم تقني خوفا أن يصطادنا مقاومو التطبيع مع الأعداء. الميديا في العالم تعيش في مرحلة تحول هائل على كل الأصعدة، والصحافيون منشغلون بما يتيحه لهم التقدم التكنولوجي من فرص في المعرفة وفي ترشيق قصصهم وفي الاقتراب من القراء الذين صاروا جزءا من القصص ومتفاعل معها.
ما زلنا نحن الصحافيين العرب دون هذه الأسئلة. سؤال الحرية ما زال عائقا أمام تقدمنا. وجريمة إسطنبول دفعتنا خطوة إضافية إلى الوراء. الميديا في العالم صارت شريكا في الأسواق وفي التشريع وفي السينما وطبعا في السياسة. الحرية هي ما جعلها على هذا القدر من الأهمية. الميديا أهم من النفط إذا ما قيست الأهمية بحجم الإنفاق.
حجم سوق الميديا في أميركا يفوق الـ 600 مليار دولار سنويا وهي إلى توسع مضطرد، فيما ثمة من يقول في بلادنا إن الإعلام بصدد الأفول. يُقتل صحافي في سفارة بلده في إسطنبول، ويُغتال أكثر من عشرين صحافيا في اليمن، وتقفل مؤسسات إعلامية كبرى في بيروت، ويعد مشروع قانون لمحاصرة الإعلام الإلكتروني في الأردن… هذه عينة من أحوال وسائل الإعلام العربية، فيما يأتي الصحافيون الغربيون إلى مؤتمر “أريج” محملين باحتمالات النجاح الكبرى التي تتيحها لهم الحريات في بلادهم أولا، ثم الفرص التي توفرها لهم التكنولوجيا الحديثة، وهي ليست فرصا تقنية وحسب، إنما فرص لتنشيط الخيال، وللذهاب بأحلامهم إلى مستويات غير مسبوقة.
المعلومات التي كنا نمضي معظم وقتنا بحثا عنها صارت متاحة اليوم، والسبق لم يعد يتمثل بسرعة الوصول إليها، إنما في مستويات ذكائنا وقدرتنا على صياغتها وعلى تأليفها قصصا متماسكة وجاذبة. الحرية أمر بديهي خارج النقاش، ورأس حربة التنافس هو الذكاء والرشاقة والابتكار.
يضعنا مؤتمر “أريج” السنوي أمام هذه التحديات، لكن وفي كل عام نلاحظ أنه كرس طموحا لدى شرائح جديدة من الصحافيين صارت ترى نفسها خارج وعي الإعلام التقليدي والممول من الأنظمة، وهي اليوم تسعى عبر قصصها الصحافية للتفلت من الرواية الرسمية للحدث. يأتي اليمنيون محملين بقصصهم المليئة بالمآسي التي تسبب بها الحوثيون والتحالف العربي في آن، ويأتي السوريون المعارضون للنظام، ولكن مع قصصهم عن الانتهاكات التي ترتكبها الفصائل العسكرية المعارضة للنظام، ويأتي لبنانيون ليخبرونا عن فشل بلدهم في أن يكون بلدا.
ثمة شيء بدأ يتأسس خارج النظام الإعلامي الرسمي العربي، والتكنولوجيا أعطته قوة دفع كبيرة، لكن ما زال في مراحله التطوعية، ذاك أن الأسواق ما زالت ممسوكة من رأس المال الرسمي، والقوانين يمكن لها أن تحاصره، وهذا ما بدأ يلوح في أكثر من بلد (مصر والأردن ولبنان). لكن الأكيد أن العالم صار أصغر، وهو ما زال يتسع لجريمة قتل صحافي، إلا أنه صار من الصعب على القاتل أن يخفي وجهه، وهذه خطوة إلى الأمام.
الحرة