د. عادل عبد الناصر حسين
كان نجيب يرى أن الثورة قد قامت وأصبحت بداية ونهاية، ولكن جمال عبد الناصر وصحبه من ضباط الثورة كانوا يرون انها البداية لطريق طويل من الافكار حول عروبة مصر والاستقلال الوطني وتطوير مصر صناعيا وزراعيا، ورعاية الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين، وغير ذلك من افكار ثورية، أي أن الثورة في نظرهم كانت صراعا ما بين مصر الشابة المتحمسة ومصر التقليدية في صورة جيل نجيب الذي ينتمي إلى الماضي اكثر من الحاضر.
التفت حول نجيب بقايا العصر الملكي واحزاب ما قبل الثورة وجماعة الاخوان المسلمين، وهنا نشب الصراع الخفي بين رجال الثورة وافكارهم الطموحة ونجيب الراغب في المتعة في منصب رئيس الجمهورية، وللعلم لم يكن الصراع ما بين نجيب الديمقراطي ورجال الثورة الدكتاتوريين، فقد كان نجيب خلف قانون إلغاء الاحزاب، وهو من وقع قرار اعدام العمال الشيوعيون خميس والبقري، وقرارات كتيرة واراد ان يظهر في النهاية انه ديقراطي، بل اراد ان ينفرد بالسلطة، وان يعود الضباط إلى المعسكرات، فقد اراد ان تكون له السلطة في تعيين قيادات الجيش من كتيبة إلى فرقة، وان يكون المستحوذ على كل السلطات التنفيذية المتعددة، وهنا كانت معارضة رجال الثورة ومن خلفهم تنظيم الضبط الاحرار الذي اتسع وتوسع.
من ناحية أخرى ظهرت جلية في قضية نجيب انتهازية الاخوان المسلمين وسعيهم المحموم للسلطة وكان تصورهم أن يحكم نجيب اسميا، فقد كانوا يخططون للسيطرة والحكم من خلف الستار تمهيدا للسيطرة الكاملة وتنحية نجيب فيما بعد، واستمر الصراع وكان عبد الناصر يعمل 20 ساعة في اليوم من اجل تثبيت اقدام الثورة، بينما كان نجيب مشغولا بالمظاهر والسلطة والابهة، وعشقه لممرضة جميلة في عيادة طبيب اسنان معروف كان يرغب في الزواج منها وهو ما شغله إلى حد كبير عن العمل السياسي، إلى ان كانت قرارات مارس الثورية بتنحية نجيب وتحديد اقامته في قصر زينب الوكيل في المرج قرب القاهرة.
وهنا أصيبت جماعة الإخوان والطامحون من بقايا رجال الاحزاب بغضب جنوني، وفي هذا الوقت تمكنت اجهزة الامن من كشف عدة اجتماعات سرية ما بين المرشد العام والسفير البريطاني، ولو رجعنا للخلف عدة سنوات سوف نرى انتهازية الاخوان حيث وعدوا بالمشاركة في الثورة ثم هربوا إلى ان تأكدو من مغادرة الملك ارض مصر، وأنه تنحى!
هنا ظهرت انتهازية الإخوان في اقترابهم من ثورة 23 يوليو حيث ادعوا كذبا أنهم شاركوا في الثورة ضد الملك، والواقع انهم فكروا في سرقتها بعد ان تنجح، بل ان المرشد العام حسن الهضيبي هرب إلى الاسكندرية ولم يعلن التاييد الا يوم 27 يوليو 1952.
في زمن لاحق تفجرت الاحداث والمواجهات بعد ان نجح جمال عبد الناصر في ابرام اتفاقية الجلاء البريطاني عن مصر، وشن الاخوان حملة كبيرة تشكك في سلامة هذه الاتفاقية الوطنية، مما دفع التنظيم السري برئاسة عبد الرحمن السندي إلى تكليف هنداوي دوير المحامي ومسئول التنظيم عن امبابة بالعمل على اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في ميدان المنشية في الاسكندرية، وذلك من خلال تجنيد مكوجي عضو في التنظيم السري للاخوان اسمه محمود عبد اللطيف، والذي كُلف بالسفر إلى الاسكندية ومعه مسدس في قتل جمال عبد الناصر مقابل شبر في الجنة!!
صدق الرجل تلك الأكذوبة وسافر إلى الاسكندرية واندس وسط جموع الجماهير في الشادر المقام، حيث كانت الهتافات المعادية لثورة 23 يوليو الناصرية من جماعة الاخوان، وكان رجال الثورة وبعض الضيوف العرب يعتلون المنصة، واقترب محمود عبد اللطيف من المنصة واطلق خمس رصاصات اصطدم بعضها بأكواب المياه، وهنا يروي الصحفي محمد شاكر الواقعة حيث هاجت الجماهير لكن ناصر وقف ثابتا، وخطب في الجماهير معلنا إنه إذا مات جمال عبد الناصر فكلكم جمال، وانهار الحاج عبد الناصر حسين الجالس في المنصة، وأيضا الليثي عبد الناصر، رغم ان الجميع طمأنهم ان جمال بخير.
في اليوم التالي سافر جمال عبد الناصر إلى القاهرة حيث احتشدت الجماهير لتحيته، وشكلت حادثة الأسكندرية نقطة تحول في انحياز الشارع السياسي إلى صف جمال عبد الناصر وانحسار التأييد للاخوان، وفي محطة السكة الحديد في القاهرة احتشد اكتر من 400 ضابط من رجال الثورة للترحيب بجمال، وغنت ام كلثوم الاغنية المعروفة التي قالت: يا جمال يا مثال الوطنية بنجاتك يوم المنشية اجمل اعيادنا الوطنية.
هنا تحرك زكريا محي الدين وزير الداخلية وعضو مجلس قيادة الثورة وقائد حصار راس التين يوم 26 يوليو، وتمكن من اعتقال كل قيادات الاخوان في مصر من اسوان إلى الاسكندرية، ولم تكن العملية سهلة، فقد كان الإخوان منتشرين في كل أرجاء مصر، ومعهم السلاح والمال، وإثر حملة الاعتقالات هرب منهم من هرب إلى خارج مصر وشُكلت محكمة الثورة مكونة من البغدادي والسادات وحسن ابراهيم أعضاء مجلس قيادة الثورة، وحُكم على محمود عبد اللطيف بالاعدام بعد ان اعترف بكل تفاصيل المؤامرة، كما اعدم هنداوي دوير المحامي ورئيس شعبة الاخوان في امبابة بصفته المحرض على جريمة الاغتيال، اما سيد قطب فقد اودع السجن كي يخرج بعد سنوات ويخطط لمؤامرة 1965 الشهيرة، أما من هربوا فقد تحول بعض منهم إلى رجال اعمال وهجروا السياسة كما عبد العظيم لقمة، والبعض استمر في طريقه الاخونجي حتى عادوا إلى مصر بعد وفاة الزعيم عبد الناصر إثر صفقة أبرموها مع السادات، والذي استخدمهم لضرب قوى اليسار والناصريين.
نشط الاخوان دون علم رجال الثورة الناصرية في الاتصال بالسفارة البريطانية سرا، ومنها اجتماع بين المرشد العام للاخوان حسن الهضيبي والمستر ايفانز المستشار بالسفارة البريطانية في 24 فبراير1953، وحدثت تلك الاتصالات المتكررة بعيدا عن عيون السلطات.
كان مجلس قيادة الثورة يعلم بالاتصالات التي حدثت بين مكتب الارشاد والسفارة البريطانية اعتبارا من يناير 1953، ولكن الإخوان استطاعوا إخفاء مباحثاتهم مع الإنجليز في أبريل 1953، وكان ذلك بدافع الحرص ان تكون لهم اليد العليا في التعامل مع الانجليز عندما تتم لهم السيطرة على مقاليد الامور في البلاد، وعقد اجتماع اخر في يوليو 1953 بين الاخوان ومندوب السفارة البريطانية.
اما المحادثات مع الامريكان فقد كشفت الوثائق الأمريكية ما دار في الغرف المغلقة، ونرى سعيد رمضان القطب الاخواني الشهير يتصل بالامريكان، حيث ضمه على سبيل المثال يوم 27 مايو 1953 لقاء مع المستر جيرنجان ممثل السفارة الامركية والمستر بوردويت، وفي 4 يونيو1953 عقد اجتماعين آخرين بين الإخوان المسلمين والأمريكان، حيث وافق الإخوان على الصلح مع الكيان الصهيوني في حال الوصول إلى الحكم، ومن أسباب إخفائهم لتلك الاتصالات مع الأمريكان أنهم كانوا يعلمون أن نجيب سيسعد بتوقيع تلك المعاهدة السرية مع الامريكان، وان جمال عبد الناصر ومجلس الثورة سيعارضها بشدة.
وكان الاخوان يمارسون أنواعا من المكر والتلون؛ فمع الانجليز كانوا يعربون عن عدائهم للأمريكان لأن بلادهم تساند الصهيونية، ومع الامريكان كانوا يسبون الانجليز لأنهم عدو العرب والمسلمين، ومن أخطر الإفادات التي قدموها للأمريكان في تلك الفترة أنهم أخبروهم بأن شيئا ما سيحدث ضد حكومة الثورة في القريب العاجل، وذلك إشارة لحادثة المنشية 1954 التي تواطؤا فيها لإسقاط نظام الحكم.