السلايدر الرئيسيتحقيقات
قراءةٌ تفصيليّةٌ للأزمة الروسيّة – الأوكرانيّة.. وسردٌ بالتواريخ لتسلسل الأحداث (2 – 2)
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ ربّما كان أكثر ما زاد الطين بلّةً في خضمّ تداعيات التطوُّرات المتسارِعة التي استجدّت على مسار الأزمة الأوكرانيّة خلال الأسبوع الأخير من شهر شباط (فبراير) عام 2014 هو أنّ تزامُن اختفاء الرئيس فيكتور يانوكوفيتش مع استقالة رئيس البرلمان فلاديمير ريباك الذي ينتمي إلى “حزب الأقاليم” مع عددٍ من رفاقه النوّاب بشكلٍ مفاجىءٍ، سرعان ما أفسح المجال أمام نوّاب المعارَضة لكي يُدخِلوا تعديلاتٍ جذريّةً على مسار السياستيْن الداخليّة والخارجيّة للبلاد، ولا سيّما بعدما صوَّتوا على إلغاء عمليّة مكافحة الإرهاب، وأمَروا بسحب الجيش إلى الثكنات، ومَنَعوا عناصر وزارة الداخليّة من التصدّي للمحتجّين، وأقرّوا قانونًا جديدًا للعفو، وقانونًا آخَر يقضي بالعودة إلى العمل التشريعيّ بموجب دستور عام 2004، ناهيك عن قيامهم باتّخاذِ سلسلةٍ من الإجراءات المريبة الأخرى، بدءًا من التصويت لصالح عزل الرئيس والإفراج عن رئيسة الوزراء السابقة المسجونة يوليا تيموشينكو، مرورًا بتعيين أرسين أفاكوف وزيرًا للداخليّة وإلحاق عناصر الحركات اليمينيّة المتطرِّفة بقوّات الوزارة وإشراكهم في عمليّات المحافظة على الأمن في شوارع كييف وغيرها من المدن، وانتهاءً بتكليف رئيس البرلمان الجديد ألكسندر تورتشينوف بمهامّ الرئيس الأوكرانيّ المؤقّت.
القرارات الكيديّة
في موازاة ذلك، وعلى رغم أنّ روسيا دعَت من جهتها المعارَضة الأوكرانيّة وشركاءها الدوليّين إلى تطبيق بنود الاتّفاق الموقَّع يوم الحادي والعشرين من شهر شباط (فبراير) بين الرئيس يانوكوفيتش ومعارِضيه بحضور وزراء خارجيّة كلٍّ من ألمانيا وفرنسا وبولندا، إضافةً إلى مفوَّض الرئيس الروسيّ لحقوق الإنسان فلاديمير لوكين، فإنّ الدوائر الأميركيّة والأوروبيّة رفضت اعتبار تلك الأحداث بمثابةِ انقلابٍ مسلَّحٍ، وأعلنت عن اعترافها بشرعيّة السلطات الجديدة، الأمر الذي ما لبث أن أفسح المزيد من المجال أمام البرلمان للمضيّ قُدمًا في اتّخاذ المزيد من القرارات الكيديّة التي اعتبرَتها موسكو معاديةً لها وللمناطق الشرقيّة – الجنوبيّة من أوكرانيا، مثل التصويت على إلغاء قانون اللغات الذي كان يسمح باستخدام اللغة الروسيّة كلغةٍ إقليميّةٍ، والدعوة إلى حظر “حزب الأقاليم” الحاكم الذي يتزعَّمه يانوكوفيتش، وحظر بثِّ القنوات الروسيّة في الأراضي الأوكرانيّة، وهي القرارات التي كانت كافيةً لإثارةِ موجةٍ عارمةٍ من الاستياء والغضب في أوساط سكّان جمهوريّة شبه جزيرة القرم الذين تتحدَّث غالبيّتهم اللغة الروسيّة، حيث سارع الآلاف من أبناء مدينة سيفاستوبول إلى الخروج في تظاهرةٍ حاشدةٍ يوم الثالث والعشرين من شهر شباط (فبراير) رافعين شعارًا يدعو إلى إقالة عمدة المدينة وتعيين رجل الأعمال الذي يحمل الجنسيّة الروسيّة أليكسي تشالي عوضًا عنه، بينما تظاهر المئات من المؤيِّدين والمعارِضين للسلطات الجديدة أمام مقرّ برلمان الجمهوريّة ذات الحكم الذاتيّ في مدينة سيمفيروبول بشكلٍ أدّى إلى اندلاعِ مواجهاتٍ بين الطرفين، قبل أن يتمكَّن أنصار “لجان الدفاع عن الناطقين باللغة الروسيّة في القرم” بحلول نهاية ذلك الشهر من السيطرة على مقرّ البرلمان ومطاريْن مدنيّيْن في كلٍّ من سيفاستوبول وسيمفيروبول، وذلك بالتزامُن مع تعيين سيرغي أكسيونوف الذي ينتمي إلى حزب “الوحدة الروسيّة” المؤيِّد لروسيا رئيسًا جديدًا للوزراء.
المياه الدافئة
أمّا في موسكو، فقد طلَب مجلس النوّاب (الدوما) من الرئيس فلاديمير بوتين الاستجابة للدعوة الرسميّة التي تقدَّم بها الرئيس الأوكرانيّ فيكتور يانوكوفيتش ورئيس وزراء القرم الجديد سيرغي أكسيونوف بشأن المساهمة في ضمان الأمن والاستقرار في أوكرانيا نظرًا لوجودِ خطرٍ يهدُّد حياة المواطنين الروس والناطقين باللغة الروسيّة هناك، فما كان من الرئيس بوتين إلّا أن طلَب بدوره من مجلس الاتّحاد (الشيوخ) السماح له بنشرِ قوّاتٍ روسيّةٍ في أوكرانيا، ليُوافق المجلس على ذلك بالإجماع يوم الأوّل من شهر آذار (مارس) عام 2014، الأمر الذي وضَع الولايات المتّحدة والحلفاء الأوروبيّين أمام واقعٍ ميدانيٍّ يختلف تمام الاختلاف عمّا كان قد ورَد في كافّة التحليلات والتوقُّعات الاستخباراتيّة الأميركيّة السابقة، ناهيك عن أنّه عكَس بالتالي حالةَ إرباكٍ لم يُحسَب لها أيّ حسابٍ على مكيال فرص الربح والخسارة، سواءٌ في واشنطن أم في معظم العواصم الأوروبيّة، وخصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الوقائع الميدانيّة التي سُجِّلت وقتذاك على الأرض، دلَّت بوضوحٍ إلى أنّ الرئيس بوتين تمكَّن من السيطرة على الأوضاع في شبه جزيرة القرم بأكملها في غضون أقلّ من ثمانٍ وأربعينَ ساعةً، من دون أن يضطرّ إلى تحريكِ جنديٍّ واحدٍ من الأراضي الروسيّة إلى الأراضي الأوكرانيّة، ولا سيّما أنّه اكتفى بقوّات أسطول البحر الأسود المتمركزة أصلًا بموجبِ اتّفاقيّةٍ رسميّةٍ بين موسكو وكييف في قاعدة سيفاستوبول، أيْ في ذات القاعدة التي كانت الولايات المتّحدة تسعى من أجل حثّ السلطات الأوكرانيّة الجديدة على إقفالها لدى انتهاء فترة صلاحيّة الاتّفاقيّة يوم الثامن والعشرين من شهر أيّار (مايو) عام 2017، أملًا في تضييق الخناق على روسيا عن طريق إغلاق ممرّات الوصول إلى المياه الدافئة في وجهها، علمًا أنّ الجانبين الروسيّ والأوكرانيّ كانا قد مدَّدا فترة بقاء أسطول البحر الأسود في تلك القاعدة لغاية عام 2042، وذلك بموجبِ اتّفاقيّةٍ جديدةٍ تمّ التوقيع عليها يوم الحادي والعشرين من شهر نيسان (أبريل) عام 2010، ونصَّت أيضًا على إمكانيّة التمديد لفترةِ خمسِ سنواتٍ إضافيّةٍ، أيْ لغاية عام 2047.
الوطن الأمّ
في غضون ذلك، تمَّ التوقيع في موسكو يوم الثامن عشر من شهر آذار (مارس) على معاهدة انضمام جمهوريّة القرم إلى روسيا الاتّحاديّة بناءً على نتائج الاستفتاء العامّ الذي كان قد أُجري قبل ذلك بيومين في شبه الجزيرة، حيث ظهَر أنّ نسبةَ ستّةٍ وتسعينَ في المئة من السكّان يؤيّدون فكرة العودة إلى أحضان الوطن الأمّ، الأمر الذي دفع الرئيس بوتين يومذاك إلى التذكير بأنّ قرار تسليم شبه الجزيرة للإدارة الأوكرانيّة عام 1954 تمَّ اتّخاذه بمبادرةٍ من الرئيس السوفييتيّ في حينه نيكيتا خروتشوف، ولأسبابٍ “يعود البحث فيها للمؤرِّخين”، مشيرًا إلى أنّ “عمليّة التسليم كانت مخالِفةً للأحكام الدستوريّة المعمول بها”، إذ إنّها كانت بمثابةِ “اتّفاقٍ شخصيٍّ” لم يأخُذ في الاعتبار ما أثارَه من تساؤلاتٍ لدى سكّان شبه الجزيرة، نظرًا لأنّه أُبرِم “في ظروفِ دولةٍ شموليّةٍ لا تسأل مواطنيها عادةً عن رأيهم، بل تضعهم أمام الأمر الواقع”، علمًا أنّ قرار التسليم كان شكليًّا فقط، نظرًا لأنّه “تمَّ داخل دولةٍ كبيرةٍ واحدةٍ كانت فيها روسيا وأوكرانيا جزءًا لا يتجزّأ من الاتّحاد السوفييتيّ”، ومشدِّدًا على أنّ الاستفتاء الأخير في القرم جرى بتوافُقٍ تامٍّ مع الإجراءات الديمقراطيّة وأحكام القانون الدوليّ، ولا سيّما أنّ جنديًّا روسيًّا واحدًا لم يدخُل إلى أراضي شبه الجزيرة التي تبلغ مساحتها قرابةَ السبعةِ والعشرينَ ألفَ كيلومترٍ مربَّعٍ، والتي باتت تُسمّى اعتبارًا من ذلك اليوم ولغاية الآن: جمهوريّة القرم الروسيّة.
عصا العقوبات
ولعلّ أكثر ما كان لافتًا في سياق ردود الأفعال الغربيّة على هذه التحوُّلات الاستراتيجيّة الهامّة خلال تلك المرحلة هو أنّ الولايات المتّحدة لم تأخُذ في الاعتبار بأيِّ شكلٍ من الأشكال مطالَبة رئيس لجنة الشؤون الاستخباراتيّة في الكونغرس الأميركيّ مايكل روجرز يوم الخامس من شهر آذار (مارس) عام 2014 بشأن ضرورةِ فتحِ تحقيقٍ حول ما وصفَه بأنّه “سوء تقدير” وكالة المخابرات المركزيّة لما يمكن أن يصدُر عن روسيا من ردودِ أفعالٍ حيال تطوُّرات الأزمة الأوكرانيّة، وتحديدًا من جهةِ ما تضمَّنته تقارير الوكالة وتحليلاتها من تأكيداتٍ على أنّ الرئيس فلاديمير بوتين “لن يجرؤ على فرض سيطرته على شبه جزيرة القرم”، وخصوصًا إذا أعدنا للذاكرة أنّ إعلان روجرز جاء بعد مرورِ أربعةِ أيّامٍ فقط على موافقة أعضاء مجلس الاتّحاد الروسيّ بالإجماع على “السماح باستخدام القوّات المسلَّحة الروسيّة داخل الأراضي الأوكرانيّة حتّى عودة الاستقرار السياسيّ والاجتماعيّ إلى هذا البلد”، تمامًا مثلما جاء قبل أحدَ عشرَ يومًا من إجراء الاستفتاء العامّ الذي أفضى إلى عودة شبه الجزيرة إلى الحضن الروسيّ، الأمر الذي لا بدَّ من أن يدفع على الاعتقاد، ولو بدرجاتٍ متفاوِتةٍ، بأنّ لجوء الولايات المتّحدة وحلفائها الأوروبيّين إلى استخدام عصا العقوبات التي ما زالت تُجدَّد المرّة تلو الأخرى منذ ذلك الوقت ولغاية يومنا الراهن ضدَّ روسيا، كان يهدف في الأساس إلى التغطية على “سوء تقدير” التقارير الاستخباراتيّة الآنفة الذكر، علمًا أنّ كافّة شواهد الأعوام الأربعة الماضية أثبتت بشكلٍ قاطِعٍ عدم نجاعة تلك العقوبات في التأثير على تطلُّعات وتوجُّهات واستراتيجيّات القيادة الروسيّة في مجال السياستيْن الداخليّة والخارجيّة على حدٍّ سواء.
المستقبل المجهول
على هذا الأساس، وفي ضوء ما تقدَّم ذكره بالتزامُن مع ارتفاع حدّة التوتُّر بين روسيا وأوكرانيا منذ نهار الأحد الماضي على خلفيّة قيام خفر السواحل الروسيّ باحتجاز ثلاثِ سفنٍ أوكرانيّةٍ إثر دخولها في المياه الإقليميّة الروسيّة بالقرب من بحر آزوف ومضيق كيرتش بطريقةٍ غيرِ قانونيّةٍ، ومن ثمّ لدى توقيع الرئيس الأوكرانيّ بترو بوروشينكو على مرسومٍ يقضي بفرضِ الأحكام العرفيّة ووضْعِ جزءٍ من البلاد في حالةِ حربٍ، فإنّ السؤال الأهمّ الذي يُفترض أن يُطرَح للتوّ هو: إلى أين يا تُرى يمكن أن تتّجه الأمور بين البلدين على المدى المنظور؟
سؤالٌ، أغلب الظنّ أن أفضل الإجابات عنه كانت قد وردَت في مقالٍ جريءٍ نشرَته صحيفة “ناشيونال إنترست” في شهر شباط (فبراير) عام 2016 لوزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق والشهير بلقب “الثعلب العجوز” هنري كيسينجر في أعقاب اجتماعٍ عقده مع الرئيس فلاديمير بوتين، وخصوصًا عندما دعا الولايات المتّحدة إلى ضرورة النظر لروسيا كعنصرٍ رئيسيٍّ في أيِّ توازنٍ عالميٍّ جديدٍ عوضًا عن اعتبارها الخطر الوحيد والمطلق الذي يهدِّدها… وحسبي أنّ هذه الدعوة إذا ما قُدِّر لها أن تؤخَذ على محمل الجدّ، فهي ستؤدّي حتمًا إلى تجنيب العالم من مخاطر الخوض في المزيد من الحروب الدامية، اللهم إلّا إذا صدقَت تحليلات الخبير في معهد أبحاث الأمن الدوليّ التابع لأكاديميّة العلوم الروسيّة ألكسي فيسينكو التي جاء فيها أنّه لا يتوقَّع أيَّ تحسُّنٍ للعلاقات الروسيّة – الغربيّة في المستقبل القريب، بل يتوقَّع مزيدًا من التدهور، وذلك في معرض تعقيبه على تقريرٍ عن العلاقات بين الجانبيْن نشرَه معهد العلاقات الدوليّة الملكيّ البريطانيّ في شهر حزيران (يونيو) عام 2015، وخصوصًا من جهة ما تضمَّنه التقرير من إشاراتٍ إلى أنّ على الغرب أن يعمل على تعزيز قدرات حلف شماليّ الأطلسيّ، باعتباره الأداة الأساسيّة لمواجهة روسيا، ويُبقي على العقوبات ضدّها إلى أن تُحلّ الأزمة في أوكرانيا، وهو ما رأى فيه الخبير الروسيّ سببًا كافيًا للدفع في اتّجاه نشوبِ صِدامٍ عسكريٍّ بين الطرفين، أو حربٍ محدودةٍ في بلدٍ ثالثٍ، تقضي على النظام العالميّ القائم، وتُقيم فوق أنقاضه نظامًا جديدًا.. والخير دائمًا من وراء القصد.
لقراءة التقرير السابق: قراءةٌ تفصيليّةٌ للأزمة الروسيّة – الأوكرانيّة.. وسردٌ بالتواريخ لتسلسل الأحداث (1 – 2)