أقلام مختارة

مؤسسة الزواج

كوليت بهنا

كوليت بهنا

قبل ما يقارب ربع قرن من اليوم، كتبت قصة ساخرة بعنوان “حتى أنت يا روبوت؟!”، ترجمت لاحقا إلى اللغة الإسبانية وتصنف من قصص الخيال العلمي، تحكي عن فتاة تبحث عن زوج لا يخونها ويمكنها التحكم ببرمجته كما تشاء، لتجد ضالتها في إنسان آلي (روبوت) وسيم للغاية كما تصفه، تتزوجه وتعيش معه حياة هانئة ومستقرة وتنجب منه طفلة نصف آدمية ونصف آلية يمنحانها اسم جدتها لأبيها (ماكينة).

تكتشف السيدة بعد حين أن زوجها الآلي يقوم بخيانتها مع امرأة آلية من جنسه، مبررا جرم خيانته بإلقاء اللوم عليها لإهمالها له ولجمالها ومنح كل اهتمامها للطفلة، إضافة إلى حجته الأكثر إقناعا وهي اكتشافه بأن الخيانة جزء لا يتجزأ من آليات تفكيره وسلوكه، لأن من صنعه وبرمج دماغه الإلكتروني هو إنسان آدمي يفكر مثل كل الجنس الذكري.

منذ ذلك الوقت وأنا أتابع بدهشة واهتمام الأخبار العلمية الغرائبية المتوالية التي تتحدث عن تقدم علوم الذكاء الاصطناعي وتحقق الخيال العلمي وتحوله إلى حقيقة، وازدياد عدد الزيجات بين أفراد من البشر وروبوتات أو دمى صناعية أو افتراضية عاما بعد عام.

آخر ما تناقلته المواقع الاخبارية قبل أيام، عن زواج السيد “كوندو” مدير المدرسة الياباني (35 عاما) من محبوبته المغنية “ميكو”، وهي دمية افتراضية تبلغ من العمر 16 عاما مطورة بتقنية “هولوغرام” يحبها منذ عشر سنوات، مبررا زواجه منها بأنها “وفية ولا تشيخ”.

“كوندو” ليس الرجل الأول الذي يتزوج من دمية في العالم، ففي اليابان التي ينخفض فيها معدل الزواج وينخفض عدد السكان سنويا، هناك 3700 فرد متزوجون من شخصيات افتراضية.

وفي بريطانيا يعيش أحد المواطنين مع تسع زوجات من الدمى الصناعية، كما يعيش بريطاني آخر مع 240 دمية في منزله. وتنقل الأخبار كل حين زواجا غرائبيا من هذا النوع، في الوقت الذي يؤكد فيه علماء الذكاء الاصطناعي بأن هناك ميول تسيطر على عدد كبير من سكان العالم لتجربة الدخول في علاقات جنسية عن طريق تكنولوجيا الواقع الافتراضي أو الاعتماد على الروبوتات الجنسية المتطورة، وأن العديد من الأشخاص قد يتزوجون الروبوتات بحلول عام 2050.

هذا يعني أن مؤسسة الزواج التقليدي بين البشر في خطر. وفي الواقع هي كذلك منذ سنوات، حيث تشير كل الأرقام إلى انخفاض معدل الزواج في العالم وارتفاع نسب الطلاق بشكل مطرد، في أسباب جوهرية مترابطة بينهما؛ أهمها الأسباب الاقتصادية، وتأثير الحداثة على الإنسان والتي تدفع به يوما بعد يوم إلى مزيد من العزلة والتوحد والفردانية. وهذه الأسباب هي الأكثر تأثيرا في العالم الغربي، إذ تسمح القوانين للأفراد بحرية اختيار الحياة الاجتماعية التي يرتاحون إليها، أي اختيار العزوبية أو الانجاب خارج إطار الزواج أو الطلاق، مع تأمين التسهيلات الكاملة للعيش بيسر ودون ضغوط اجتماعية ضمن واحدة من هذه الخيارات، لكنها خيارات تؤكد بمجموعها أن مؤسسة الزواج تميل إلى الأفول في الغرب يوما بعد يوم.

من هنا، فإن الإصرار على مفهوم العائلة، التي تجهد كل المؤسسات الدينية الغربية والقيم الاجتماعية على تشجيعها كما تحرص الأعمال الفنية الدرامية السينمائية أو التلفزيونية الغربية باستمرار على التركيز على أهمية مفهوم العائلة والحفاظ عليها، أو الدفع باتجاهها عبر بث الرسائل الدرامية الإيجابية التي تنهي قصص الحب نهايات سعيدة تتكلل بالزواج وإنشاء عائلة.

فيما نجد الوضع معاكسا في باقي دول العالم الفقيرة أو النامية، ومن بينها الدول العربية، التي تعطي الأولوية للقيم الدينية والاجتماعية والعادات والتقاليد. إذ إنه وبالرغم من ارتفاع نسب الطلاق العالية في معظم هذه الدول، إلا أن الرغبة في الزواج وتأسيس أسرة لا تزال مرتفعة للغاية بين الجنسين، اللذين لا يمتلكان أية خيارات عيش حرة كتلك الغربية، وليس أمامهما إلا مؤسسة الزواج.

وباتت هذه المؤسسة تبدو شديدة الاستعصاء على ملايين الشابات والشبان، بسبب الأوضاع الاقتصادية العسيرة للغاية، والهجرة والحروب وغيرها من الأسباب الجوهرية التي ترفع نسب العنوسة بين الجنسين، دون أن يعني ذلك عدم تقديسهما ورغبتهما بالزواج، ودون أن تساهم حكومات هذه الدول بتقديم التسهيلات الضرورية التي تحقق حلم الملايين من العاجزين عن الزواج.

مؤسسة الزواج، ورغم نفور العديد من الناس من توصيفها بـ”المؤسسة”، إلا أنها حين تتحقق بالشروط والتفاهمات الصحيحة والعادلة، هي الغطاء الأكثر دفئا للشريكين، والحصن المنيع والصحي والنفسي والمعنوي لهما ولأطفالهما، ومن الأهمية دوما التركيز على إيجابية مفهوم العائلة وتقديم التسهيلات التي تساعد في بنائها، وتفهم الأفكار غير البناءة التي تنتشر في الميديا وكافة وسائل التواصل الاجتماعي والتي تفرضها صعوبات الحياة المعاصرة وتمجد العزلة والتوحد والانغلاق.

ويجب التنويه إلى أن تلك الزيجات المرتبطة بالدمى أو الروبوتات آنفة الذكر هي حالات استثنائية وغرائبية ترتبط بحالات نفسية تخص أصحابها بأنفسهم، كما أن تحذيرات العلماء حولها ليست أكثر من تهويل علمي ودعاية لمصنّعيها، إذ من المهم معرفة أن تكلفة ثمن العروس الدمية اليابانية “ميكو” وحفل زفافها، وكذلك الدمى الصناعية التي يقتنيها البعض تفوق عشرات الآلاف من الدولارات التي تكفي لعقد زواج أكثر من عشرة أزواج طبيعيين. وأهم نقطة في السياق، هي أن الدمى يصنعها إنسان، وستشيخ وتعتق بفعل العوامل الجوية، والروبوتات المعدنية أيضا ستصدأ وتتفكك وتخون إذا اختلت برمجتها، ولا ديمومة إلا لنسل الإنسان الطبيعي واستمرار العائلة وحنانها.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق