د. عماد بوظو
إيجاد عنوان مناسب ومعبّر لمقالة ما ليس بالأمر السهل، ولكن عند الكتابة عن رائد فارس يتبادر إلى الذهن أكثر من عنوان؛ فمن الممكن استعارة اسم إحدى روايات غابرييل غارسيا ماركيز “قصة موت معلن” للحديث عن رائد. يعرف قراء الرواية من الصفحة الأولى بل من العنوان ما الذي سيحدث مع بطلها، إذ كان الجميع بما فيهم هو يعرفون تلك النهاية.
ينطبق الأمر على رائد، ليس فقط بسبب كثرة الأعداء الذين يتحينون الفرصة لاستهدافه، من طرف النظام الذي خرج لمعارضته أو من طرف التنظيمات الإرهابية الإسلامية التي يعارض كل برامجها ووسائلها، بل نتيجة تعرضه سابقا لعدة محاولات اعتداء واختطاف واعتقال وتحقيق.
ففي آذار/مارس 2014 عندما تعرفت على رائد كان قد مضى بضعة أسابيع فقط على محاولة اغتيال تعرض لها من قبل تنظيم “داعش” أصيب خلالها بثلاث رصاصات قال لي وقتها إن اثنتين ما زالتا في جسمه، وكانت جراحه الحديثة تسبب له ألما واضحا في كل مرة يحاول تحريك طرفه الأيمن.
لم تتوقف محاولات الاغتيال وعمليات الاختطاف طوال السنوات التالية ومن بينها اعتقاله وتعذيبه من قبل تنظيم “القاعدة” وهو الاسم الذي كان رائد يفضل استخدامه عند الحديث عن جبهة “النصرة” مهما غيرت من أسمائها وبدلت من الأقنعة التي ترتديها. وكان من المعروف أن هذه المحاولات ستستمر حتى تحقق أهدافها ولكن ذلك لم يستطع التأثير على عزمه بمواصلة عمله هناك بين أهله وعلى أرضه.
كما أن اسم رواية ميخائيل ليرمنتوف “بطل من هذا الزمان” تناسب كذلك عنوان مقالة تتحدث عن شخصية وحياة رائد فارس. إذ رغم كل الأخطار التي كان يتعرض لها فإنه لم يتنازل عن السلمية كموقف مبدأي يؤمن به وتجلى ذلك برفض حمل كل أشكال السلاح بما فيها الفردي لحماية حياته. وكانت تعرض عليه مغريات كبيرة للبقاء في الخارج خلال زياراته لكبرى العواصم العالمية، التي كان يتلقى فيها استقبالا حافلا من قبل كبار المسؤولين وممثلي المنظمات الدولية. وكان يعرض عليه في كل مكان يذهب إليه إمكانية البقاء للمحافظة على حياته ومتابعة عمله عن بعد مع ضمان التواصل مع نشطاء بلدته، ولكن ذلك لم يستطع إغراءه، وكأنه كان يبحث عن نهاية تليق بقصة نضاله.
وكان من الممكن أن يكون عنوان المقالة قصيدة محمود درويش “وعاد في كفن”: “كان اسمه، لا تذكروا اسمه، خلّوه في قلوبنا، لا تدعوا الكلمة، تضيع في الهواء كالرماد، خلوه جرحا راعفا لا يعرف الضماد، طريقه إليه”، أي أن أغلب القصص والقصائد التي تتحدث عن البطولة والتضحية والنضال السلمي تصلح كعنوان للحديث عن رائد فارس.
قدمت الثورة السورية آلاف الشهداء الذين لديهم قصص تستحق أن تتخلد ويحكى عنها للأجيال اللاحقة، لكن لرائد فارس مكانا مميزا في مقدمة هذه الأسماء، فقد كانت لافتات كفرنبل طوال السنوات السبع الماضية التعبير الأدق عن ضمير الثورة، لتميزها وتقدم محتواها، كما لفتت نظر الخارج لبساطتها وخطابها الواضح والمباشر الذي يختصر الموقف الشعبي من كل ما يحدث، من صمت وتواطؤ المجتمع الدولي أو جرائم النظام السوري وحلفائه والتنظيمات المتطرفة أو إخفاق وفشل تشكيلات المعارضة.
كانت تلك اللافتات تؤكد على رفض الطائفية والتطرف وعلى الطابع السلمي لمعارضة النظام. كانت الصورة النقية للثورة السورية كما بدأت، وبقيت وفية لمبادئها رغم كل ما تعرضت له.
كفرنبل، مع الكسرة تحت الباء كما يلفظها أهلها، بلدة غير كبيرة إذ كان عدد سكانها 15.500 نسمة فقط عام 2004 وتقع في منطقة “المدن المنسية”. وهي أكبر تجمع للمواقع والمدن الأثرية في العالم، لأنها تحتوي على أكثر من 800 مدينة وموقع يعود بناؤها لعهد الإمبراطورية البيزنطية الشرقية خلال القرون الأولى لميلاد المسيح.
ومن المفارقات أن أهم أسباب هجرة سكان هذه المدن المنسية منها كانت الغزوات الفارسية المتكررة خلال الفترة بين 527 حتى 627 حين كان الغزاة يجرفون الأراضي ويقتلعون أشجار الزيتون، كما يفعل غزاة هذه الأيام، وكذلك نتيجة الفتح العربي الذي قطع علاقة هذه المدن مع القسطنطينية التي كانوا يصدرون لها زيتهم وزيتونهم ومنتجاتهم.
دور هذه البلدة في الثورة السورية كان أكبر من حجمها، نتيجة لافتاتها التي كانت رسائل مركزة موجهة للداخل والخارج. ومع شهرة هذه البلدة انطلقت شهرة رائد فارس الذي كان مسؤولا عن اللافتات القماشية باللغتين العربية والإنكليزية. نتيجة لهذه الشهرة المبكرة انطلقت في آذار/مارس 2013 فعاليات المعرض الجوال لرسومات كفرنبل في عدة مدن أميركية وكندية، تضمنت رسوما ولافتات، وكانت التواريخ في أسفل اللافتات تدحض أكاذيب النظام حول أنه يحارب مجموعات إرهابية تكفيرية، لأن هذه اللوحات كانت تعكس بمضمونها التعبير السلمي لشعب أعزل في مواجهة آلة عسكرية تقتل المدنيين وتقصف منازلهم.
كان من أهم أسباب نجاح وشهرة رائد فارس وشباب كفرنبل أنهم كانوا أنقياء وبعيدين عن الأحزاب والحركات السياسية التقليدية في سوريا بأقسامها القومية، التي انتهت إلى تمجيد ديكتاتوريات عسكرية، واليسارية التي قدمت أسوأ أنظمة الرعب في التاريخ، والإسلامية التي تصر على الحياة في عالم أسطوري تخيلي بعيد عن الواقع وعن العصر. ابتعاد شباب كفرنبل عن هذه الحركات هو الذي منحهم هذه الحيوية الفكرية والقدرة على الإبداع.
في هذا الوقت كانت بعض الشخصيات من بقايا تلك الأحزاب تتصارع في محاولة لتسلم مناصب في المعارضة السورية لتمثيل ثورة لا تمت لهم بصلة ولا تشبههم. وفي حين سلم القوميون واليساريون بحقيقة أن لا دور لهم في هذه الثورة، أصر الإسلاميون على الادعاء بأن لهم دورا قياديا فيها، ربما معتمدين على أسماء بعض الكتائب وأشكال وأزياء قادتها وأعضاء هيئاتها الشرعية، رغم معرفتهم بأن هذا يخدم النظام الذي كان يدعي دوما بأن ما يحدث هو تمرد منظمات إسلامية متطرفة مسلحة وليس ثورة شعبية سلمية غير طائفية ضد نظام بنى وجوده وتحالفاته على أسس طائفية.
كما أن المزاج الشعبي لم يكن متعاطفا مع الإسلاميين، وكان ذلك واضحا في اللافتات والهتافات وفي كل الفعاليات السلمية والمدنية لهذه الثورة، وكانت كفرنبل في مقدمة من ظهّر هذا الموقف.
رائد من مواليد عام 1972 وهذا يجعله في عمر كبير نسبيا مقارنة بأغلب شباب الثورة الذين كانوا في العشرينيات وهو العمر الذي يمثل قمة التهوّر الذي تتغلب فيه الاعتبارات الأخلاقية والمبدأية على اعتبارات السلامة والأمان الشخصي، وهذا يضيف إلى شخصية رائد هذا البعد الأخلاقي الاستثنائي، فقد كانت خياراته ناتجة عن إدراك واع لما يريده والثمن الذي قد يدفعه، وليس نتيجة اندفاع عاطفي.
كما أن عمره الأكبر نسبيا جعله يشعر بالمسؤولية والأبوة تجاه الكثير من شباب هذه البلدة وناشطيها، فقد حول بلدته كفرنبل إلى مدرسة للنضال السلمي والوعي الثقافي. ففي راديو فرش الذي أسسه مع مجموعة من أصدقائه عام 2013 تجسدت قصة أخرى لنجاحه والتي كان لها تأثير كبير في خدمة الخط الذي يدعو إليه، حيث وصل بث هذه المحطة لمحافظات إدلب وحلب وحماة وتدرب فيها 2500 شاب وفتاة سورية على التغطية الصحافية واكتساب الثقافة العامة والمعرفة السياسية، ونتيجة هذا النجاح فقد تعرض هذا الراديو للاعتداء ومصادرة وتحطيم محتوياته من قبل جبهة “النصرة”.
مهما كان حجم المرثيات التي قيلت بحق رائد فارس فإنها لن توفيه حقه. لكنها أظهرت معرفة العالم بحجم ما فعله؛ فقد نعاه الرئيس الفرنسي ماكرون مع زميله حمود جنيد واعتبرهما ضمير الثورة التي وقفت بسلام وشجاعة ضد جرائم النظام والإرهابيين، وختم النعي بقوله “لن ننسى مقاومة كفرنبل”. كما أصدرت الخارجية الأميركية بيان تعزية للشعب السوري قالت فيه: “لقد كان رائد وحمود من الوطنيين والناشطين الذين كرسوا حياتهم لبناء مستقبل أفضل لسوريا وشعبها، كما ساعدا في نقل طموحات الشعب السوري في الحرية للعالم”. وهذا كان رأي بعض الحكومات الديمقراطية وكبريات الصحف ووسائل الإعلام العالمية، لكن التعزية الأكثر أهمية كانت من كفرنبل نفسها عندما تجمع شبابها حول لافتة كتبوا عليها: “رائد الفارس وحمود جنيد، ما قتلوكما ولكن شبّه لهم، فما زلتما فينا نبراسا للحرية مجددان للهمم”، ليؤكد هؤلاء الشباب أن السنوات التي قضاها رائد بينهم لم تذهب سدى، وأن الثورة كما كان يقول دائما “فكرة والأفكار لا تموت”.
الحرة