أقلام مختارة

هل شكسبير معارض لقانون الهجرة؟

رياض عصمت

رياض عصمت

يعرّف كثيرون وليام شكسبير على أنه أعظم مؤلف مسرحي في التاريخ، بينما يصفه آخرون بأنه كاتب أبيض، غريب الأطوار، عاش في انكلترا بين عامي 1564 ـ 1616 وخلّف تراثا من 37 مسرحية، كما كتب عددا كبيرا من القصائد الشعرية. يحيط الغموض والأسرار بشخصية شكسبير حتى عصرنا الراهن، فبعض الباحثين ينكر وجود هذا الشخص على الإطلاق وينسبون مسرحياته تارة إلى معاصره المؤلف المسرحي كريستوفر مارلو الذي توفي مقتولا في ريعان الشباب، أو إلى واحد من كبار النبلاء الذين أرادوا إخفاء هويتهم وهوايتهم معا لأن ممارسة فن المسرح كان يعتبر عارا على أبناء الطبقة العليا في ذلك الزمان.

من ناحية أخرى، ينكر قلة من الأدباء الموهبة الفذة التي تحلى بها وليم شكسبير، ومنهم الروائي الروسي الكبير ليو تولستوي الذي انتقد بشكل خاص مسرحيته التراجيدية “الملك لير” معتبرا إياها أشبه بمسرحية أطفال، والمؤلف المسرحي البريطاني لاذع النكتة جورج برنارد شو الذي وضع أعمال هنريك إبسن في مصاف أعلى من أعمال شكسبير.

كما حضرت ذات مرة محاضرة لناقد بريطاني في جامعة كامبريدج مزق فيها إربا مسرحية “روميو وجولييت” عن قصة الحب الخالدة للمؤلف البريطاني العتيد، ووصفها بأنها تكرس ما هو ضد الطبيعة، وأنها كانت بالنسبة للجمهور في تلك الحقبة أشبه بالمتعة الوحشية لقتل دب في حفرة عميقة.

في الواقع، ليس وحده فيلم “شكسبير عاشقا” (1998) من إخراج جون مادن ما جعلني ادحض صحة هذه النظريات الثلاث القائلة بعدم وجود شخص اسمه شكسبير أو أن شخصا آخر انتحل هذا الاسم أو أن صاحب 37 مسرحية منوعة الطراز بين تاريخية وتراجيدية وكوميدية وبين ـ بين كاتب غير موهوب، وإنما زياراتي المتعددة لمسقط رأس شكسبير بلدة ستراتفورد ـ أبون ـ إيفون الجميلة، حيث رأيت بأم عيني البيت الذي ولد وقضى طفولته فيه، وزرت كوخ آن هاثاواي الذي تزوج منها فيه وأنجبا الأولاد، وكذلك بيت شكسبير الجديد ـ كما يطلق عليه ـ والذي اقتناه بعد أن اغتنى من ريع مسرحياته الرائجة في لندن، وأخيرا ضريحه الذي خطت على شاهدته في كنيسة “هولي ترينيتي” الكلمات التالية: “مبارك من يحفظ هذه الأحجار، وملعون من يعبث بعظامي”.

أعتقد أن أحد أسباب عظمة شكسبير تكمن في إيمانه بالتنوع البشري بعيدا عن التعصب العرقي، والعاطفة التي بثها في قصائده المسماة “سونيتات” للسيدة السمراء التي تؤكد أوصافها أنها تنحدر من شمال أفريقيا، مثلها مثل بطله عطيل ذو البشرة السوداء والأصل المغربي، وخاصة قصيدته الغزلية المعروفة “هل أشبهك بيوم صيف”.

يستطيع زائر لندن ارتياد مسرح “غلوب” الذي بني على الطراز المعماري نفسه في زمن شكسبير، والذي تتراوح أماكن المتفرجين فيه بين شرفات ذات مقاعد وباحة يقف الناس فيها طيلة العروض، ولا يسمح فيها بفتح المظلات حتى لو أمطرت السماء، وكثيرا ما تمطر حسب التعبير الإنكليزي “قططا وكلابا”، بمعنى أن الجو عاصف للغاية. من الملاحظ أن شكسبير اختار أن يجعل عديدا من مسرحياته تدور في بلدان شتى من العالم، فهاملت هو أمير الدانمارك، وروميو وجولييت يقطنان فيرونا، وشايلوك يحاول استرداد دينه الظالم من تاجر البندقية، ومسرحيات عديدة أخرى لشكسبير تدور أحداثها في النمسا واليونان وقبرص وسكتلندا وإسبانيا وبوهيميا وسواها. هل كان شكسبير، إذن، معارضا لقانون الهجرة، ومناديا بالمساواة بين العروق والأجناس؟

ربما هذا هو الشعور الأول الذي ينتاب المتفرج حين يرى إحياء “مسرح الكتاب” لمسرحية شكسبير الكوميدية “الليلة الثانية عشرة”، إذ اختار مخرجها مايكل هالبرستام طاقم تمثيل متعدد الأعراق، بحيث أسند دور بطلتها فيولا إلى الممثلة السوداء الموهوبة جنيفر لاتيمور، ودور شقيقها التوأم سيباستيان للممثل الأسود لوس ميتريوس، ودور الدوق أورسينو للممثل الآسيوي ماثيو سي. يي، ودور الشابة الثرية أوليفيا للممثلة ذات الأصل اللاتيني أندريا سان ميغويل، ودور رئيس الخدم مالفوليو للممثل الأبيض القدير شون فورتوناتو. بهذا التنوع وحده، وقبل فرض أي تفسير إضافي، ضمن المخرج إسقاطا معاصرا يوحي بتفوق الحب على قوانين الهجرة في كل زمان ومكان.

تروي حبكة المسرحية غرق سفينة في عاصفة شديدة وعلى متنها الشقيقان فيولا وسيباستيان، فيعتقد كل منهما أن شقيقه الآخر مات غرقا. تلجأ فيولا إلى بلد ساحلي غريب، تتنكر في زي فتى، وتلتحق بخدمة الدوق أورسينو، الذي يحملها رسائل حبه وهيامه إلى صبية ثرية تدعى أوليفيا، فإذا بها بدل أن تتقبل عواطف الدوق تقع في هوى مرسال الغرام ذي البشرة السوداء دون أن تعلم أنه أنثى. أما شقيقها سيباستيان، فينجو بفضل أحد القراصنة، ويصل إلى البلدة الساحلية ذاتها، حيث تختلط شخصيته على الجميع مع أخته نظرا لتشابهما الشديد.

في منزل أوليفيا، يتآمر أقرباؤها ووصيفاتها على رئيس الخدم الصارم والرزين مالفوليو، ويقنعونه عبر رسالة مزورة أن سيدته تهواه سرا، فيحرضونه على ارتداء جوارب صفراء ومغازلتها علنا لينتهي به الأمر إلى سجن أشبه بمصح عقلي.

تنتهي المسرحية بانتصار الحب، فأوليفيا تجد في سيباستيان الشاب الموازي لمن أحب قلبها وعشق، وأورسينو يكتشف أنه يكن عاطفة تجاه خادمه الذي اكتشف أنه أنثى. وحده مالفوليو يخرج من سجنه أخيرا مدركا الحقيقة المرة الناجمة عن خديعة حاشية سيدته الموسرة، والتي أصابه تصرفها بجرح أبدي عميق في كرامته.

بالتأكيد، فإن “الليلة الثانية عشرة” واحدة من أشهر كوميديات شكسبير التي يبلغ عددها 17، إضافة إلى “حلم ليلة صيف” و”حكاية الشتاء” و”جعجعة بلا طحن”، وقد قدمها المخرج ذو الأصل البريطاني مايكل هالبرستام بشكل بالغ الحيوية والمرح، مؤكدا على فكرة جادة ضمنية في رفض عزل أجناس البشر وأعراقهم عن بعضهم بعضا، والإشادة بقيمة الحب الذي يتغلب على كل الحدود الجغرافية وجوازات السفر.

تمتع العرض بطاقم تمثيل رائع فعلا في انسجامه وتناغمه، دون أن أستثني منه أحدا، وذلك فضلا عن ديكور وإضاءة وأزياء حديثة مبتكرة، وعن عزف وغناء بشكل حي على المسرح، تضافرت جميعا لتعيد إلى الأذهان احتفاليات المسرح وطقوسه الرائعة كما كانت، وكما يجب أن تكون عليه دائما. هذا نموذج صحي مشرق من المسرح الأميركي الذي يحيي آثار الماضي الخالدة بإسقاط عصري نضر.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق