محمد المحمود
تشير كثير من الدراسات الأنثروبولوجية إلى عصر افتراضي في مسار تطور المجتمع الإنساني، هو: “العصر الأمومي”/ عصر الأم؛ حيث كانت المرأة/ الأم هي المهيمنة في النظام الاجتماعي، من حيث هي الراعية للوحدة الاجتماعية الصغرى/ الأسرة، التي كان لا يتعدى دور الذكر فيها – وفق هذا الافتراض – التطفّل في لحظات عابرة، هي لحظات التزاوج المحكومة بغريزة ظرفية ليس لها من وظيفة إلا التكفل ببقاء النوع الإنساني.
لكن، وعلى الرغم من وجود كثير من المؤشرات الداعمة لهذا الافتراض؛ إلا أن الإجماع العلمي على وجوده – كمرحلة عامة وشاملة لعصر إنساني طويل – لا يزال بعيدا. الأقرب أن تكون الهيمنة الذكورية قديمة قدم العالم الإنساني؛ لا لمجرد الإحالة إلى معطيات بيولوجية تقرن العنف بالذكورة فحسب، وإنما أيضا بالإحالة إلى معطيات واقعية تمتد على اتساع فضاء الجغرافيا الإنسانية، وبعمق التاريخ الإنساني المكتوب.
إذن، الهيمنة الذكورية هي واقع نعيشه ونُعايشه، هي واقع الأمس القريب الذي نستطيع معاينته/ رصده، كما هي واقع اللحظة التاريخية الراهنة/ العصر الحديث. إنها هيمنة راسخة، كانت؛ ولا تزال؛ ولن تزول في المستقبل القريب. وبصرف النظر عن الموقف الإنساني/ الأخلاقي من هذه الهيمنة، فهذا هو واقع الحال؛ وفق ما يؤكده عالم الاجتماع اللبناني، الباحث القدير/ خليل أحمد خليل، حيث يقول في هذا الصدد: “تُعدّ الولاية الذكورية ظاهرة إنسانية عالمية، نشأت من الملكية الخاصة للعائلة والسلطة، للنساء وللدين، وأفضت إلى استعمار ذكوري للمعمورة أو للعالم المعلوم المكشوف” (عقل العلم وعقل الوهم، خليل أحمد خليل، ص139).
إن المجتمع الإنساني في عمومه وإلى عهد قريب، لم يكن يمنح النساء أبسط الحقوق؛ خاصة إذا ارتبطت هذه الحقوق بمساحة من الحرية تكفل للمرأة مساحة أكبر من المشاركة في الرأي العام، أو حتى تحديد خياراتها الشخصية ذات الارتباط بالاستقلال الفردي. وحين بدأت المرأة تأخذ مساحة أوسع من الحرية؛ كان ذلك مرهونا بالتقدم الذي كان قد بدأ يتحقق على مستوى الأطروحات الإنسانوية التي أخذت تُراجع موقع الإنسان في التاريخ/ التراث، من خلال المراجعة الشاملة لكل الأطر المعرفية الموروثة التي تحكم نظام الفكر العام. وهذا ما بدأ يتحقق بوضوح، وبزخم كبير ومؤثر، في أوروبا القرن الـ18، أو ما عُرف بعصر العقل/ عصر التنوير الأوروبي.
يُمثّل الإنسان الفرد/ الإنسان الحرّ محور الفعالية التنويرية. وإذا كانت حقوق المرأة كـ”فرد حُر” لم تتحقق بالتوازي مع ما كان يتحقق للرجل في الواقع؛ فإن من الملاحظ أن حرية المرأة وإن أتت متأخرة نسبيا، إلا أنها كانت تتحقق في واقع المجتمعات الليبرالية التي تؤكد على الفردانية، بأسرع وأشمل وأرقى مما كان يحدث في المجتمعات الجمعانية/ الكليانية التي كانت تبدو وكأنها لا تزال أسيرة التصورات البدائية الموروثة التي لا وجود لـ”الفرد” فيها، بل لا معنى له؛ إلا من حيث هو جزء من كل/ فرد من مجموع.
حتى في القرن الـ20 الذي يبدو وكأنه هو “قرن المرأة” نتيجة القفزات الحقوقية الكبرى التي أنجزتها مسيرة تمكين المرأة، كانت المجتمعات ذات التوجه الشمولي تحاول إعادة المرأة إلى نقطة البداية/ البدائية، إلى عبودية اجتماعية/ أسرية تسلبها كل ما تحقق لها من استقلال فردي؛ في حركة معاندة لمنطق التاريخ. فخلال هذه القرن، الفريد في تقرير الحريات الإنسانية، وفي أوروبا مركز إشعاع التحرر العالمي، كانت الأحزاب والتيارات اليمينة المتطرفة القائمة على عصبويات جَمعانية، تتنكر صراحة للمنجز النسوي التحرري، وتقرر على مستوى الأطروحات الفكرية، وعلى مستوى التشريعات القانونية، إعادة المرأة إلى البيت بوصفه المجال الحيوي الطبيعي للحراك النسوي.
وكمثال، لو أخذنا النظامين الشموليين: الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا؛ لرأينا كيف أن المرأة بدت تحت هيمنتهما وكأنها تكاد تنزلق إلى ما يماثل وضع المرأة في الشرق، وربما إلى ما هو أسوأ. يقول مهنّا حداد – في معرض مقاربته للفكر العنصري الغربي – عن موقف الفاشية الإيطالية من المرأة: “كأب وزوج كان موسوليني يعرف ما هو الأفضل لهن أكثر مما كن يعرفن ذلك بأنفسهن. وبكل صرامة وحنيّة وضع النساء في مكانتهن: وراء عربة الأطفال، وأعادهن أكثر من قبل إلى العمل البيتي”، ثم يقول: “لقد بدأ موسوليني أولا بحرمان أرامل الحرب من حق الاقتراع، وفي فترة لاحقة كان على المرأة أن تتنازل عن حقها الديموقراطي”، (الفكر العنصري الغربي، ص207). وراج القول في هذا النظام أن “النسوة الشريفات يبقين في البيوت، لأن اللواتي يتعلقن بسواعد الرجال في الباصات والقطارات عاهرات” (المصدر نفسه، ص 207/208). وأيضا في إيطاليا الفاشية صدر قانون الشرف عام 1930، وهو القانون الذي أعطى الأزواج والإخوة حق تنفيذ حكم الإعدام على مرتكبة الخيانة الزوجية (المصدر نفسه، ص208). وفي ألمانيا، وبناء على تشريع الفوهرر لعام 1934 استثنيت النساء من مراكز القيادة (المصدر نفسه، ص209).
وحتى في هولندا ذات الإرث الليبرالي العريق، نجد أن “حزب الاتحاد الشعبي في الستينيات يرجع السبب في العنف ضد النساء إلى الإبهام الذي أوجدته حركات تحرير المرأة. فلو أن المرأة بقيت في خضوعيتها لما تعدّى عليها الرجال”. وفي إنكلترا “وضعت الحركات اليمينية حركات التحرّر النسوية موضع العدو الذي يجب أن تهاجمه، واتهمت الحركات النسائية بتحطيم الثورة الحضارية الأوروبية من خلال تهديد مركز الرجل وعدم اعترافها بسلطته” (المصدر نفسه، ص211). وبهذه الأقوال وأمثالها كانت تنطق الأحزاب الفاشية والتيارات اليمينية العنصرية مهما اختلفت أماكنها وظروفها؛ مما يشي بتشابه، بل بتطابق تصوراتها الأولى عن الإنسان. ولهذا لم يتردد مهنا حداد، وبعد أن استعرض كثيرا من هذه الأمثلة المعادية للتحرر النسوي، أن يقول: “ما أكبر الشبه بين تعبيرات الحركات المعادية للأنثوية وحركات التحرر النسائية، والعقائد الفاشية والاشتراكية الوطنية، فهي تبدو بالضرورة جزءا منها” (المصدر نفسه، ص 212).
إن هذه الوصايا والاقتراحات والتشريعات اللاإنسانية، التي تصدر عن حراك فكري – واقعي، تتفاعل جدليته في فضاء العالم المتحضر، العالم الإنساني، إنما هو صدى للموروث العتيق القابع في الأعماق والآتي من أزمنة بدائية غائرة في عمق الذاكرة/ التاريخ؛ فكأنما هو “إعاقة” في مسيرة حركة؛ أو نكوص وارتداد في سياق حركة النمو الإنساني الصاعد، والمتعاضد عبر أكثر من مسار. وفي كل الأحوال، يبقى هذا الموقف الذكوري العنصري تعبيرا عن تصور تقليدي بدائي، يحاول وضع المرأة في الأسر لصالح الاستبداد الذكوري الذي يؤمن بضرورة “الهرميات السلطوية” في المجتمع الإنساني.
لقد كان تهميش المرأة وتحديد حركتها جزءا من مسار عام يعكس روح العصور القديمة، بما فيها من مفكرين وفلاسفة وأدباء ومُشرّعين. فحتى سَدنة العقل، أي الفلاسفة الكبار عبر التاريخ، لم يستطيعوا الخروج من الإطار العام للوعي في عصرهم، إذ رغم كونهم منحازين – في العموم – إلى الإنسان، إلا أنهم كانوا يخضعون للتصور السائد في تحديد “وضع المرأة”، وبالتالي، رسم حدود استقلاليتها وحريتها. وفي هذا ما يؤكد أن الوعي بالمرأة كإنسان/ الوعي بحريتها مرتبط بتحولات نوعية في فضاء الفعل الحياتي المرتبط بالمشترك الإنساني العام، أي مرتبط بروح عصرٍ يصعب تجاوزه كأفق وعي؛ أكثر مما هو مرتبط بتفكير عقلاني مستقل.
ويمكننا – لإيضاح مدى ارتباط التحقيب الفكري/ التصوري بالتحقيب الزمني/ التاريخي – أن نعاين موقف المعلم الأول/ أرسطو من المرأة، فهو وإن كان تسيّد التفكير العقلاني في العصور القديمة، إلا أنه لم يستطع الخروج من أفق عصره في هذا المجال. ينقل هادي العلوي قول أرسطو في كتاب السياسة: إن الطبع هو الذي عين المركز الخاص للمرأة والعبد. ويرى العلوي أن قول أرسطو هذا أخطر من قول أهل الأديان: إن الله هو الذي عين المركز. لأن الطبع مقولة جوهرية في الفكر والله مقولة اعتقادية. وجعل المركز المتدني للمرأة من عمل الطبع يؤثر في نمط الفكر الفلسفي أكثر من مقولة لاهوتية (فصول عن المرأة، هادي العلوي، ص82).
بناء على ما سبق؛ نجد أن مسيرة التحرر النسوي مرتبطة بمسيرة التحرر الإنساني الذي يتطور في الزمان/ التاريخ، وليس ثمة علاقة تلازمية تربط هذه المسيرة بالانحلال. ما تتمتع به المرأة اليوم من حرية، وكل ما تحققه من استقلالية؛ تدعم بها عملية بناء ذاتها الإنسانية، إنما هو تحوّل أصيل متنامٍ كجزء من تحول عامٍ في مسيرة النمو الإنساني. وكما أن اسْتئْسَار المرأة في القديم لمنظومة العادات والأعراف التي تتربع الهيمنة الذكورية على عرش وصايتها، مشرفة على صيانتها، لا يعني بالضرورة تطهّرا من الانحلال، فكذلك لا يعني التحرر من تلك المنظومة العتيقة؛ بكل ما يستلزمه ذلك من رفض حاسم للهيمنة الذكورية، الوقوع في وحل الانحلال. وإذا كان صحيحا أن “الانحلالية الإباحية” تتسع دائرة إمكانها باتساع دائرة التحرر؛ فإن هذا لا يعني تلازما على أي مستوى، فالتحرر يتيح فضاء واسعا لكل إمكانيات الفعل الإيجابي المتعدد والمتنوع، ويبقى الخيار الانحلالي، فضلا عن كونه خيارا فرديا، مجرد خيار هامشي واستثنائي وعابر، ولا يمكن أن تُرْتَهن إليه حركات الحقوق العامة التي تحكم واقع جميع الأفراد/ المجتمع الإنساني.
الحرة