رياض عصمت
عجيب أمر نبوءات هوليوود! يصعب أن يتصور أحد كيف توازى قيام سفن حربية روسية بإطلاق النار على ثلاث سفن أوكرانية قبالة ساحل شبه جزيرة القرم واعتقال 24 من بحارتها مع انطلاق عروض فيلم يتنافس فيه بطل الملاكمة الأميركي الأسود كريد، الذي يدربه بطل العالم الأميركي السابق روكي، مع ملاكم روسي عملاق هاجر مع والده من موسكو إلى أوكرانيا واستقرا فيها عقب هزيمة روكي للملاكم الأب في موسكو.
نادرا ما يتفوق جزء ثان من سلسلة على الفيلم الأول الأصيل، ويظل “روكي” (1978) الأعلى تقييما بين جميع أجزاء السلسلة، لكن “كريد 2” (2018) استطاع التفوق على “كريد” (2015) بأكثر من ميزة، وفي طليعتها أنه استقرأ المستقبل جيدا، ونقل الحرب الباردة الناجمة عن محاولات روسيا استعراض عضلاتها في أماكن شتى من العالم إلى نزال رمزي في حلبة الملاكمة على بطولة العالم.
كما هو متوقع، تبادل الرئيسان الروسي بوتين والأوكراني بوروشينكو الاتهامات عقب الحادث المشار إليه. اتهم الأول نظيره بمحاولة تلميع صورته قبل انتخابات العام المقبل، في حين أصدر الثاني قرارا بفرض الأحكام العرفية في 10 مناطق حدودية لمدة 30 يوما بسبب الاعتداء على قطع بلاده البحرية الثلاث وأسر عدد من بحارتها.
سرعان ما بث جهاز المخابرات الروسي تصريحات نسبت إلى ثلاثة من أولئك البحارة بأنهم كانوا على علم بـما أسموه “الطبيعة الاستفزازية” للتصرف الأوكراني، بينما قائد سلاح البحرية الأوكراني سارع للرد قائلا إن الرجال الثلاثة أجبروا على الكذب تحت وطأة التهديد.
هكذا، بعد أربع سنوات من استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، غير أبهة باستنكار عدة دول غربية والعقوبات التي فرضت عليها، يعتبر التوتر الحالي الناشب بين البلدين تصعيدا لافتتاح الروس في وقت سابق جسرا يربط البر الروسي بشبه جزيرة القرم عبر مضيق كيرش الذي يؤدي إلى بحر آزوف، لأن أوكرانيا تملك مينائين رئيسيين يقعان على الساحل الشمالي لذلك البحر، الذي تنص معاهدة وقعت عام 2003 بأن للبلدين حق الملاحة الحرة فيه.
بالتالي، كان من الطبيعي أن يلغي الرئيس ترامب لقاءه المقرر مع الرئيس بوتين على هامش قمة الأرجنتين نتيجة هذا التوتر. أما الكرملين فأبدى أسفه لقرار الرئيس الأميركي، مؤكدا أن الرئيس الروسي لا يزال مستعدا لإجراء اتصالات مع نظيره الأميركي. السؤال المشروع: كيف استطاع خيال صانعي فيلم “كريد 2” التنبؤ بمستقبل الأزمة الحالية قبل عام أو أكثر أثناء إنتاج الفيلم؟
في الواقع، ما زال العالم مندهشا من صدق عديد من تنبؤات مواسم المسلسل التلفزيوني الشهير “24” من بطولة كيفر ساذرلند. ولا أستطيع تأكيد مدى صحة ما تداولته وسائل التواصل الاجتماعي من تنبؤات مذهلة في بعض حلقات مسلسل الكارتون الشهير “سيمبسون” عن حدوث 9/11 وإظهار رموز تشير إلى بعض ثورات الربيع العربي! يبدو لي أن بعض الإنتاجات الدرامية الهوليوودية فاقت تنبؤات العراف الشهير نوستراداموس، بحيث جعلت خيال الجمهور يستعيد “نظرية المؤامرة”.
ينطلق “كريد 2” من قصة قديمة تعود إلى نهاية فيلم “روكي 4” (1985)، التي يثأر فيها بطل العالم لمقتل صديقه ومدربه الراحل أبولو كريد على يدي ملاكم روسي جبار بهزيمته في عقر داره موسكو وانتزاع إعجاب الجمهور الروسي الذي بدأ المباراة بمناصبته العداء.
تنتهي أحداث “روكي 4” قبل 33 سنة من يومنا الراهن بخطاب لاهب من بطل الملاكمة الفائز روكي يحث فيه الجمهور الروسي في عهد غورباتشوف على بناء جسر من التفاهم مع الغرب وإزالة ركام من الشك والريبة.
أما اليوم، فاختار كاتب السيناريو والممثل المساعد في الفيلم الجديد سيلفستر ستالون ألا يضمن الفيلم مثل هذا الخطاب، لأن التصرفات الروسية الراهنة جعلت عديدا من عوامل عدم الثقة تعود لتتنامى وتهز أسس التعاون بين البلدين لضمان أمن واستقرار العالم.
يكفي أن نتذكر أن افتتاح فيلم “كريد 2” وازى أيضا ما ذكرته مجلة نيوزويك الأميركية عن أن المحامي ألان ديرشوفيتز، أستاذ القانون الجنائي السابق في جامعة “هارفارد”، صرح في مقابلة تلفزيونية مع شبكة ABC قائلا: “إن فريق ترامب القانوني بدأ يتأهب بالفعل للرد على نتائج التحقيق في مزاعم تدخل روسيا في انتخابات الرئاسة الأميركية التي جرت عام 2016″، وهو الأمر المتوقف على ما سيخلص إليه تقرير المحقق روبرت مولر.
يتابع فيلم “كريد 2″، إذن، أحداث “روكي 4” القديمة بمقاربة مختلفة تناسب إسقاطاتها السياسية الأوضاع الراهنة. نتيجة تلك الهزيمة المذلة في عام 1985، يخسر الملاكم الروسي كل شيء دفعة واحدة، فتنحسر أضواء المجد والرعاية عنه، بل تتخلى زوجته عنه وعن ابنهما لتقترن بمسؤول دبلوماسي، فلا يبقى له في الحياة سوى أمل وحيد هو تدريب ابنه الجبار ليهزم ربيب روكي، وابن ضحيته أبولو، وينتزع حزام بطولة العالم في موسكو، مدينته التي يحلم بأن يرد الاعتبار له فيها.
هكذا، يرتب خصم روكي القديم (دولف لاندرغرين) مع متعهد رياضي أسود استفزاز أدونيس كريد (مايكل ب. جوردان) للعب مباراة على اللقب في فيلادلفيا مع ابنه الشاب واضح القسوة والجبروت. يرفض روكي تدريب كريد الابن، لاعتقاده أن الملاكم الروسي “خطر”، لكن البطل الشاب يقرر خوض المباراة بمساعدة مدربين آخرين إصرارا منه على الانتقام من ابن قاتل أبيه.
بالطبع، يلحق به الملاكم الروسي هزيمة قاسية، بل يكاد أن يقتله على الحلبة كما سبق أن فعل والده الروسي بأبولو كريد، إلا أنه يحرم من نيل حزام البطولة لارتكابه مخالفة قانونية. يخضع كريد الابن للعلاج من إصاباته الشديدة برعاية من زوجته الحامل ووالدته.
هنا، يقتنع روكي (سيلفستر ستالون) بضرورة العودة لتدريبه، فيأخذه إلى معسكر ناء في عمق الصحراء حيث يخضعه إلى أقسى التمارين البدائية ليصبح قادرا على احتمال ضربات خصمه القوي.
يعلن مكان النزال، فإذا به موسكو مرة أخرى. هناك، عبر مشاهد رائعة من تصوير كرامر مورجنثاو يشعر المشاهد أنه داخل الحلبة مع الملاكمين، يتغلب كريد الابن على دراغو الابن، وينتزع إعجاب الجمهور الروسي ـ كما سبق أن فعل روكي ـ ويتصاعد اللحن الموسيقي الشهير للسلسة من ألحان لودفيغ كورانسون فيلهب مشاعر المشاهدين.
أذكر أن قريبة مسنة ماركسية الفكر ومؤيدة للاتحاد السوفييتي جلست معنا ذات يوم ـ رحمها الله ـ تتفرج على فيلم “روكي 4″، فدبَّ فيها الحماس، وتعاطفت بشدة مشجعة البطل الأميركي ضد البطل الروسي. عندما انتهى الفيلم، صحت إلى نفسها، وصاحت: “العمى على هوليوود! جعلوني أنسى نفسي وأقف ضد الشيوعيين!”.
لم يغفل السيناريو البارع لفيلم “كريد 2″، الذي أبدعه سيلفستر ستالون بالتعاون مع جويل تايلورعن شخصيات رايان كوغلر (كاتب ومخرج الجزء الأول)، أن يضمن ثلاثة مشاهد إنسانية ذات أهمية وتأثير عميقين.
أولها، أن روكي يزور قبر رفيقة عمره أدريان، ويبثها همومه كأنها ما تزال حية ترزق، ثم يقرر الذهاب ليدق باب منزل ابنه الشاب ويقابل حفيده كي يصل ما انقطع من صلة عائلية.
ثانيها، أن كريد الابن يزور مع طفلته الرضيعة قبر والده الراحل عقب الانتصار الذي حافظ به على إرثه وحقق به ذاته.
أما المشهد الثالث الرائع فهو تأثر الملاكم الروسي الأب بمعاناة ابنه في الحلبة، بحيث يرمي، بالرغم من جبروته، المنشفة في الحلبة لينقذه من الألم وينهي المباراة بالاستسلام. هذا مشهد ذو دلالة رمزية، فإضافة إلى قيمته الإنسانية، يلخص بذكاء فكرة الفيلم بأن إحياء أمجاد الماضي ورد الاعتبار لا يتمان باستعراض القوة، ولا بالرغبة في الانتقام، بل بإحقاق الحق وإزكاء التفاهم.
لا يقتصر هذا على دولة بعينها، بل هو مبدأ عام يفترض أن يحترم ويسري على علاقات جميع الدول مع بعضها. بالتالي، لا يجوز الكيل بمعيارين وغض النظر عن احتلال أراضي الغير، أو استخدام القوة المسلحة للعدوان، أو استفزاز دولة لجرها إلى حرب، أو فرض السلطة بواسطة استخدام القوة المفرطة. كل واحدة من هذه السلوكيات هي بمصطلح الملاكمة “ضرب تحت الحزام”، أي أنها مخالفة قانونية تكبد صاحبها فقدان اللقب.
للأسف الشديد، ما زالت أحداث السياسة المعاصرة، وفي أكثر من زمان ومكان، تؤكد الأمثولة القائلة إن أحدهم سأل فرعون: “يا فرعون، من فرعنك؟” أجاب: “لم يردني أحد”.
الحرة