د. عادل عبد الناصر
مع مرور الوقت بدأت بريطانيا تدرك عبث الاحتفاظ بقواعد في مصر، وتعرّض معسكراتها لهجمات من المصريين، ومن هنا اقترح ناصر ورفاقه استئناف المفاوضات.
يقول أنور السادات في صفحة 176 من كتابه “البحث عن الذات” (…كان عبد الناصر رئيس وفد المفاوضات، وكان قد توصل مع الإنجليز إلى الاستعداد للجلاء عن قاعدة السويس خلال 24 شهرا، شريطة أن يحتفظوا بمخازن و1200 خبير من المدنيين يتم انسحابهم خلال7 سنوات، وتصبح القاعدة مملوكة للمصريين، وعرض عبد الناصر فحوى الاتفاق على مجلس قيادة الثورة وعارض البعض ووافق البعض الآخر، وقال السادات رأيه: أنا موافق على المعاهدة بلا أي مناقشة فما الذي يمكن ل 1200 خبيرا ليسوا عسكريين عمله وفعله وهم تحت حراستنا ورقابتنا؟ وما قيمتهم وقد حصلنا على الاستقلال كاملا، وأي سياسي مصري يرفض هذا الحل لمشكلة عمرها أكثر من خمس وسبعين عاما يكون أبله أو مجنون، ووقعنا الاتفاقية في أكتوبر 1954، ثم كان استقلال السودان أو الاتحاد مع مصر مما اضطر بريطانيا للانسحاب من السودان، كما أعلنت بريطانيا عن الإفراج عن أرصدة مصرية كانت مصر قد حصلت عليها بعد نهاية الحرب الثانية، كما استعد انثوني هيد وزير الدولة البريطاني للسفر إلى القاهرة، كما ارسل الرئيس الامريكي آيزنهاور برقية تهنئة إلى الرئيس المصري مع وعود بالدعم الاقتصادي، وهو موقف جديد خلاف ما واجه المبعوث المصري، قائد الجناح الضابط علي صبري، في زيارته لأمريكا قبل عام.
في 27 يوليو وقع انثوني هيد مع عبد الناصر المعاهدة بالأحرف الأولى، ويوم 19 أكتوبر وقع الوزير البريطاني انتوني ناتنج تفاصيل الاتفاق في القاهرة، وكانت الاتفاقية مرضية للطرفين، وحققت المعاهدة أعظم أحلام عبد الناصر، إذ حققت لمصر الكرامة التي جاهدت في سبيلها سنوات طويلة، ولأول مرة من ألف عام يعرف الشعب المصري معنى أن يكون مستقلا، ويوم التوقيع اكتشف الوزير البريطاني أن قلمه قد نفذ حبره فاستعار قلم ناصر ثم وضعه في جيبه، إلا أن ناصر قال ضاحكا للوزير البريطاني: هل تتفضل بإعادة قلمي، ويكفي ما أخذته بريطانيا عبر خمس وسبعون عام من الاحتلال من مصر.
اعترض الإخوان المسلمين على الاتفاقية واعتبروها غير كافية أو مرضية، وبعد بضعة أيام، يوم 26 أكتوبر كان ناصر يخطب في ميدان المنشية في الاسكندرية، فأطلق عليه أحد عناصرهم النار؛ محمود عبد اللطيف، وهو مكوجي مجند من خلال هنداوي دوير المحامي الإخواني من أمبابة في القاهرة، وبناء على أوامر من عبد الرحمن السندي رئيس التنظيم السري الإرهابي التابع للإخوان، لكن الله ستر وألقي القبض على المجرم، واعترف كتابة بكل التفاصيل، وأقيمت محاكمة برئاسة عضو مجلس الثورة عبد اللطيف البغدادي، وعضوية أنور السادات وحسن إبراهيم حكمت عليه بالإعدام، كما حُكم بالسجن المؤبد على حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين، وقد حاول الإخوان تبرئة أنفسهم من هذه الواقعة بعد أكثر من ثلاثين سنة، ولكن شهود العيان –وبعضهم ما زال حيا بالمناسبة- أكدوا الواقعة، وذلك علاوة على اعترافات المتهمين والذين أقروا بمحض إرادتهم بأنهم لم يتعرضوا للتعذيب.
يعود الفضل في اعتقال عدد كبير من الإخوان والتصدي للجهاز الإخواني السري إلى زكريا محي الدين، عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الداخلية ومؤسس جهاز المخابرات بعد الثورة، والذي أصبح سنة 1965 رئيسا للوزراء، وكان من أصحاب فكرة التوجه الرأسمالي الاقتصادي.
قضى عبد الناصر على التنظيم السري للإخوان، ودارت عجلة الزمن ليغتالوا السادات بدناءة في حادثة المنصة الشهيرة، رغم أن أعطاهم الأمان وقرّبهم إليه، وهذا ديدن الإخوان في الغدر والخيانة.
بعد عدوان 1956 ألغت مصر كل ما تبقى من شروط الاتفاقية، وهو أمر كان يدخره ناصر للتوقيت المناسب، وهو الرجل الذي كان يرفض مبدئيا أي معاهدات تقلل من استقلال مصر والعرب، ولذا كان رفضه لربط مصر بالأحلاف كحلف بغداد الشهير أو غيره، وشهدت تلك المرحلة بداية الصراع بين مصر وأمريكا، حيث سعت أمريكا وفق سياستها الإمبريالية لملء الفراغ الذي اعتقدت نشوئه إثر خروج بريطانيا من المنطقة بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر.