أقلام يورابيا
ملامح فشل الإسلام السياسي بين كرد سوريا: من عامودا و «الله أكبر» وصولا لامتحان عدد الركعات في عفرين!
باز بكاري
يذهب الباحث “مسعود دالبوداك” في بحثه المعنون ب «الكردي مسلما- القومية في مهب الريح» إلى أن الدين الإسلامي اصطدم بالقومية الكردية بسبب الخلط الذي حصل بين التعاليم الدينية المنزلة من الله عز وجل, وبين العادات والتقاليد التي كانت سلوك عيش للعرب في شبه الجزيرة العربية فيقول: «ظهرت مشكلة القومية الكردية مع الدين الإسلامي في حين أنها لم تظهر في الأديان السابقة, فالإسلام يعتبر نقطة مفصلية فالكرد ما قبل الإسلام شيء وما بعده شيء آخر, وأودى اختلاط الموروث الثقافي والعادات والتقاليد في الجزيرة العربية مع الدين الإسلامي إلى خلق إشكالية عدم التمييز بين ما هو مطلوب دينيا وما هو غير مطلوب, فولد ذلك اصطدام الدين بالقومية عند الكرد وغيرهم ».
وعلى الرغم من أن إحدى نظريات علم الاجتماع تقول إن «الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته» أي من الطبيعي أن يكون لديه حب العيش في مجتمع له عاداته وتقاليده وموروثه ثقافي, إلا أن «دالبوداك» في بحثه يربطها بانصهار باقي الشعوب تحت حجة الدين, موضحا ذلك بالقول «وظهر مفهوم تطبيق العادات والتقاليد كجزء من الدين بحد ذاته مما أدى إلى ذوبان الجانب القومي للشعوب غير العربية, وتغيرت أسماء الناس والبلاد إلى أسماء عربية واعتبرت الأسماء القومية تمثل نزعة جاهلية ضد الدين, وما رسخ هذه الأفكار الخاطئة إلا رجال الدين اللذين للأسف تفقهوا بالدين بشكله السطحي فكانوا أداة لصهر المجتمع الكردي ودورهم التدميري في المطالبة بالحقوق الكردية لشعب مسلم مثله مثل غيره من الشعوب التي ضمنها الله للبشر ».
إن ما يقوله «دالبوداك» يتفق مع الفكر السائد اليوم بين الكثير من الكرد, أن الدين الإسلامي بالشكل الذي يطلب منهم الالتزام به يصهرهم, وينفي أية خصوصية لهم, وهذا ما يدفع بالكرد دون معظم شعوب المنطقة أن يرفضوا فكرة حكم إسلامي يكون حاكما لدول يعيشون فيها .
في (عامودا) المدينة الكردية الواقعة في أقصى شمال شرق سوريا, كانت المظاهرات تخرج حاملة شعارات الوحدة الوطنية, ويرفع فيها المتظاهرون العلم السوري ذو النجمتين الذي بات اليوم يعرف بعلم النظام السوري, حينها كان الصراع الداخلي بين فكرة رفع الشعارات القومية الكردية أم الاكتفاء بالشعارات الوطنية «الثورية »، وعلل مؤيدو الأخيرة أن الثورة ستأتي بكل ما نبتغي و”تجب” ما كان قبلها من سياسات النظام العنصرية تجاه الكرد, وأيضا طالبوا بمنح الثقة لشركاء الوطن والثورة كما كانوا يسمونهم, في وقت كانت فئة تستحضر التجربة الكردية في إيران, حين وثق الكرد بوعود الخميني من ثم نكث بوعوده, وباتوا يمررون الشعارات ذات الطابع الكردي في المظاهرات.
هذا الصراع لم يدم طويلا ونستطيع القول أن كلا الطرفين وصلا لتوافق حول ضرورة إظهار الخصوصية الكردية لكن ضمن الحالة الوطنية العامة.
لكن الأمر الذي طرأ على الحراك الشبابي في المدينة كان تسرب الشعارات الدينية إلى المظاهرات, الأمر الذي فسر بداية أنه تقليد سطحي دون تخطيط للشعارات التي ترفع في معظم سوريا, لكن بعد أن تحولت القضية إلى شيء فيه من التنظيم والانسجام مع تيارات سياسية دينية سورية بعينها ما أثار الريبة, حينها بدأ الحراك المناهض لهذه الشعارات.
من الحوادث التي تستحق الذكر, وفي اجتماع لمجموعة من الشباب في عامودا, كنا حوالي 35 شابا, وكان الاجتماع مخصصا للتصدي لهذه الظاهرة بالتحديد, بعد أن حدثت مشادات واشتباك بالأيدي في إحدى المظاهرات بين رافضين ومؤيدين لرفع شعارات دينية في المظاهرة, حينها كانت هناك أصوات تدافع عن رافعي هذه الشعارات بأنها تجسد صدى لصوت شريحة موجودة وفاعلة وأن المجتمع في عامودا هو مجتمع مسلم, ويجب أن لا نقف في وجه هذا التيار, اللافت في ذاك الاجتماع, والذي تصادف انعقاده مع بداية شهر رمضان, وكان غالبية الحضور غير صائمين, أذكر حينها كنا أربعة أو خمس أشخاص فقط صائمين, والمدافعين عن رفع الشعارات وللمفارقة كانوا غير صائمين, أيضا للمفارقة أن الكثير من وجهاء عامودا وهم في غالبهم ملتزمون دينيا, كانوا أيضا من التيار الرافض لرفع شعارات دينية تضفي على مظاهرات المدينة صبغة تشير لتيار سياسي معين. من المؤكد أننا لم نستطع إيقاف هؤلاء الشبان بشكل نهائي, لكن الحراك الذي حصل في المدينة بين مختلف الشرائح, كانت رسالة واضحة للذين يقفون خلف الظاهرة بأن المجتمع في عامودا رافض لتقبل أي تيار سياسي يلبس عباءة الدين.
خاصة وأن الغالبية العظمى من الشباب الكردي ترعرع في بيئة سياسية كردية محظورة في العلن ونشطة سرا, وكواحد من هؤلاء; لم أكن أتوقع أن يكون هناك حراكا لتيارات سياسية عدا التيارين الكردي – القومي والشيوعي بحكم أنها ما تزال فاعلة حتى الآن, وأيضا معظم الأحزاب السياسية الكردية كانت متبنية للاشتراكية كهدف والماركسية كفكر ضمن مناهجها الحزبية, لكن الصادم بالنسبة لي كانت المعلومة التي تلقفتها من والدي, حين حدثني ذات مرة عن أن الإخوان المسلمين كانوا نشطين في المنطقة في ستينيات القرن الماضي, وحتى أنه كان لهم مكتب دعوي في مدينة عامودا, وذكر بالتحديد اسم مجلة «الحضارة الإسلامية »التي كانت توزع في المدينة من شباب ينتمون لعائلات معروفة في المدينة, لكنه أكد لي أن هذا الحراك لم يدم طويلا ولم يكن تأثيره بالغا ليطرح نفسه كطرف سياسي فاعل في المجتمع الكردي خاصة إذا ما قورن بالحركة الشيوعية التي أخذت حصة لا بأس فيها من الكعكة السياسية في المنطقة الكردية في سوريا.
هذه الحوادث كانت مطوية في مكتبة الذاكرة المنسية بالنسبة لي, لكن ما نثر عنها الغبار كان مقطع تداوله نشطاء من مدينة عفرين لشاب ينتمي لإحدى الفصائل الإسلامية وهو يستجوب كهلين كرديين ويسألهم عن عدد الركعات لكل صلاة بطريقة لا تخلوا من الاستهزاء وعدم الاحترام لعمرهما, ويكون جواب الكهلين في كل مرة خاطئ بطريقة واضحة, لم أستطع التأكد هل هذان الكهلان من الديانة الإسلامية أم ينتميان إلى الديانة اليزيدية التي يعتنقها عدد لا بأس به في ريف مدينة عفرين.
الكرد في سوريا شعب كسائر الشعوب في المنطقة, والمجتمع الكردي لوحة فسيفسائية تتضمن حركات وتيارات فكرية متعددة, لكنه قاوم حتى الآن فرض طقس معين عليه, ولعل شغفه بالحالة القومية يعزز هذا العناد الكردي ضد أي تيار ديني يحاول ركوب موجة الكرد في سوريا.