بابكر فيصل
تناولت في مقال سابق ما ورد في كتب الفقه المقررة على طلاب المدارس الثانوية بالمملكة العربية السعودية في العام الدراسي (2017 ـ 2018) عن تطبيق حد الرجم على الزاني المحصن، وأتناول في هذا المقال ما تضمنه ذات المنهج حول حد الردة.
جاء في الصفحة 277 من كتاب الفقه (1) من المقرر أن: “حد الردة هو القتل لا فرق في ذلك بين المرأة والرجل”، ولا يتم إسقاط تلك العقوبة إلا بشرط التوبة “القتل إن لم يتب” كما ورد في الصفحة 137 من الكتاب عينه.
في البدء أقول إن القرآن يخبرنا بأن حساب المرتد سيكون عند الله في الآخرة وليس من حق أي جهة محاسبته في الدنيا. فالقاعدة التشريعية الكلية التي قررتها الآية (256) من سورة البقرة تقول “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم”.
لقد أكد القرآن على حرية البشر في الاختيار بين الإيمان أو الكفر، وفى مقابل هذا فإن مسؤوليتهم تجاه هذه الحرية تتبين يوم الحساب حيث سيحاسبهم الله على اختيارهم، وهذا ما قررته الآية (29) من سورة الكهف: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا”.
لم يذكر القرآن أو السنة المتواترة عقوبة دنيوية تُطبّق على المرتد من الدين، ولم يثبت أن الرسول الكريم أمر بقتل أحد لارتداده عن الإسلام. والذين يسوقون أمثلة تدل على أن الرسول عاقب بالردة يخلطون بين هذا وبين ارتكاب الشخص جريمة تستحق القتل.
ومن تلك الأمثلة التي تدل على ذلك الخلط ما ورد عن عبد الله بن خطل الذي أسلم وهاجر إلى المدينة فبعثه النبي ساعيا على الصدقة وبعث معه رجلا من خزاعة يخدمه، فلما كان في أحد أسفاره طلب من خادمه أن يصنع له طعاما ثم استيقظ من نومه ليجد الخادم لم يصنع شيئا فضربه بالسيف فقتله وعلم أنه لو رجع المدينة سيقتل بالرجل قصاصا فهرب إلى مكة وساق معه الصدقة وجاء لأهل مكة وقال لهم: “لم أجد دينا خيرا من دينكم”، وأخذ يهجو النبي ويسّبه ويعرض به ويسوق لذلك جاريتين عنده لتغنيا هجاء النبي في طرقات مكة.
الذين يقولون بأن هناك حدا للردة في الشريعة لا يقدمون دليلا من الأحاديث الصحيحة المتواترة بل يستندون الى حديثي (آحاد) روى أحدهما البخاري ومسلم، وورد الثاني في صحيح البخاري.
الحديث الأول هو حديث عبد الله بن مسعود الذي رواه الشيخان “البخاري ومسلم” والذي يقول فيه “لا يحل دم المسلم إلا بثلاث: قتل النفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة”. والحديث الثاني هو الذي أورده البخاري في صحيحه من حديث أبن عباس: “من بدل دينه فاقتلوه”.
هناك إجماع بين أهل الحديث على أن أحاديث الآحاد مشكوك في ثبوتها ولذا فهي لا تؤخذ إلا على سبيل الظن وليس اليقين، ومن ثم فهي لا تفيد علما ولا توجب عملا، وهو الأمر الذي يحملنا على طرح الأسئلة التالية:
هل يصح الاستناد إلى أحاديث الآحاد في قتل النفس؟ وهل تجبُّ وتلغي أحاديث الآحاد آيات القرآن الصريحة التي لا لبس فيها؟ وكيف نحل التناقض بين هذين الحديثين وبين موقف الرسول يوم صلح الحديبية حين وافق على أن يرد من يلحق به من المؤمنين المهاجرين لقريش وفى نفس الوقت يُعطي الحرية لمن يرتد عن الإسلام لأن يلحق بالمشركين؟
إن الناظر في الحديث الأول الذي يحتج به دعاة تطبيق حد الردة يجد أنه يربط ربطا مباشرا بين الردة ومحاربة جماعة المسلمين، فإذا كانت الردة هي السبب الأصلي والوحيد للقتل لكان الرسول ـ إذا ثبت نسب الحديث إليه ـ اكتفى بقول عبارة “التارك لدينه”، ولكنه أضاف إليها “المفارق للجماعة” وهو ما يفيد معنى الانضمام لجماعة أخرى لحرب المسلمين. وبالتالي يكون تطبيق الحد بحسب الحديث محصورا على المرتد المحارب.
أما الحديث الثاني فإن ألفاظه لا تعني بالضرورة تحول الشخص المسلم إلى دين آخر، بل قد يعني تحريفه وتبديله للدين أو أصوله، كما أن صيغة الحديث المطلقة تفيد بأن التحول يشمل كل صاحب دين وليس المسلم فحسب، مما يعني أنه يتوجب قتل اليهودي أو المسيحي إذا بدَّل دينه، وحتى إذا تحول للإسلام!
ومن ناحية أخرى فإن هناك حديث ورد في صحيح مسلم يوضح مخالفة الرسول للأحاديث التي يستند إليها من يؤيدون حد الردة: “حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن أعرابيا بايع رسول الله “ص” فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأتى النبي “ص” فقال يا محمد أقلني بيعتي فأبى رسول الله “ص” ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى فخرج الأعرابي فقال رسول الله “ص” إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها”.
الحديث أعلاه يبين بجلاء أن الرسول لم يأمر بقتل الإعرابي بل تركه يرحل من المدينة، رغم تنصله من البيعة، وكما هو معلوم فإن البيعة كانت تؤخذ على دخول الإسلام والهجرة معا، فلا مجال للقول بأن الإعرابي قد نقض البيعة في جزئها الخاص بالهجرة فقط.
من المستحيل عقلا وشرعا أن تأتي السنة النبوية بشيء يناقض ما يقوله القرآن الكريم، فضلا عن أن ينسخه. وإذا كانت مبادئ القرآن قد حددت بوضوح إطلاق حرية الاعتقاد وأحاطتها بكافة الضمانات، وجعلت جزاء المرتد عند الله تعالى في الدار الآخرة، فلا يتوقع من السنة أن تأتي بخلاف ذلك. خاصة وأن هذا الأمر لم يرد في آية واحدة أو آيتين، بل جاء في ما يقارب مائتي آية بينة وكلها مجمعة على تأكيد حرية الاعتقاد.
الأمر الثاني الذي يستند اليه دعاة القتل باسم حد الردة هو خوض الخليفة أبوبكر الصديق لما عرف بـ”حرب الردة”. وهذه أيضا حُجة واهية لأن حرب الردة كانت حربا سياسية شنها أبوبكر عندما رأى في فعل بعض القبائل تهديدا لأركان الدولة الإسلامية الوليدة.
وقد عارض الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وبعض الصحابة موقف أبوبكر في تلك الحرب ومع ذلك لم يحتج الأخير عليهم بالأحاديث التي ذكرناها آنفا وكان ذلك وحده كفيلا بوقف أي اعتراض على تلك الحرب، فلماذا لم يفعل؟ وكيف يعترض صحابي جليل مثل عمر بن الخطاب على تلك الحرب وهو على علم بتلك الأحاديث؟
ليست هناك علاقة بين حرب الردة وحد الردة، فحرب الردة كانت اجتهادا “سياسيا” من أبوبكر الصدّيق أظهر فيه رؤية ثاقبة، واستطاع من خلاله الحفاظ على تماسك الدولة الإسلامية في وجه تمرد كان سيؤدي لتفككها ولكن فعله هذا لا يمكن أن يصبح تشريعا “دينيا” يؤخذ به في مقابل الآيات القرآنية الصريحة.
إن قضية حد الردة ـ كما يقول طه العلواني ـ بدأت سياسية واستمرت سياسية وستظل كذلك، والجانب الديني فيها ضئيل ولا يثار إلا لخدمة الجانب السياسي في الغالب. وفي التجربة السودانية الحديثة ما يؤكد ذلك حيث قام الرئيس الأسبق جعفر النميري بإعدام المفكر الإسلامي الأستاذ محمود محمد طه بعد أن حكم عليه بالردة وكان قد قبض عليه أساسا بتهمة توزيع منشور سياسي يحرّض ضد حكومته.
وفي تسعينيات القرن الفائت صدر حكم من محكمة الأحوال الشخصية بتطليق المرحوم الدكتور نصر حامد أبوزيد من زوجته لأنه اعتبر مرتدا عن الإسلام. وقد كان السبب الحقيقي وراء الحملة التي شنّت ضده سببا سياسيا. حيث تم استهدافه من قبل رموز تيار الإسلام السياسي بسبب نقده وتشريحه وفضحه لأفكار وممارسات ذلك التيار في بحوثه الأكاديمية وعلى وجه الخصوص بحثه القيم “نقد الخطاب الديني” الذي تم تكفيره بسببه.
وكذلك صدر في إيران حكم بالإعدام على المفكر الإصلاحي “هاشم أغا جاري” بعد أن أدين بتهمة الردة لقوله إن “المسلمين ليسوا قرودا ليقلدوا بلا تفكير رجال الدين”. وأثار الحكم الذي صدر عليه موجة احتجاج شعبية واسعة مما اضطر السلطة لتخفيض الحكم إلى خمس سنوات بعد إعادة محاكمته بتهمة التهجم على مبادئ الإسلام وبث دعاية مناهضة للنظام الإسلامي ونشر معلومات خاطئة تهدف إلى زعزعة النظام العام. وهذه كلها تهم سياسية لا علاقة لها بالردة.
خلاصة القول هي أن الناس أحرار في أن يؤمنوا أو يكفروا، وهذه الحرية كفلتها لهم مشيئة ربهم الذي خلقهم والذي إليه يرجعون حين منع نبيه من أن يتطرف في حماسه للدعوة الى الإسلام حتى لا يكره الناس على الإيمان، وخاطبه بالآية (99) من سورة يونس “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”.
الحرة