حازم الأمين
لطالما كانت فرنسا مرآة لجماعات لبنانية. ليست فرنسا الحكومة ولا الثقافة. فرنسا فقط، منزوعة من زمنها ومن أحوالها ومن ما استجد عليها من ثقافات وتحولات. فرنسا المرآة بالنسبة لهذه الجماعات اللبنانية هي فرنسا شارل ديغول في زمن إيمانويل ماكرون، وزمن ميشال بلاتيني في زمن زين الدين زيدان.
واليوم تدفق على هذا الوعي اللبناني صور من فرنسا “السترات الصفر” وتحولت السوشيل ميديا إلى سيرك امتُحنت فيه الضائقة الفرنكوفونية اللبنانية على نحو كاريكاتوري. فوسائل إعلام لبنانية تولت تغطية الحدث الفرنسي مزودة بمزاج الانقسام اللبنانية، فبدا المراسل في شارع شانزليزيه وكأنه يغطي تظاهرة في زقاق البلاط. ليس المراسل فحسب، إنما اللبناني صاحب المتجر القريب من شانزليزيه قال للمراسل نفسه: “أخي قادم مع أصدقائه لحماية المحل. في الشدائد نحن لها”.
ليست هذه لوحدها مؤشرات ثبات فرنسا على صورتها الكولونيالية في وعي لبنانيين. ثمة نواب في البرلمان دخلوا على خط التصدي لـ”السترات الصفراء”. النائب في التيار العوني زياد أسود غرد بنصيحة للدولة الفرنسية: “على الدولة الفرنسية الاستعانة بخبرة اللبنانيين لفرط التظاهرات لأن استمرار المعالجة باللمس للمتظاهرين المشبوهين والمجنسين يؤدي إلى أضرار أكبر لفرنسا. اقضوا الحاجة بالاستعانة بتجربة الحراك المدني في أيامه الأخيرة… ومن بعدها اطردوهم”.
لوهلة قد يخيل للمرء أن ما يسمعه هو أصداء مسيحية لبنانية للمشهد الفرنسي، وهذا صحيح إلى حد كبير، لكن الفرنكوفونية المثبتة على صورة فرنسا ما قبل الديغولية تسربت إلى جماعات غير مسيحية أيضا خلال سعيها للتماهي السلبي مع فركوفونية المسيحيين في أيام تصدرهم. فها هي المذيعة في تلفزيون المستقبل (السني) تغرد متهمة المهاجرين بتخريب باريس، ليلاقيها مذيع آخر في محطة “أل بي سي” (المسيحية) بدعوة مُتظاهرة فرنسية من أصل سوري إلى العودة إلى سوريا “إذا كانت منزعجة من الحياة في فرنسا”.
والحال أن هذا المشهد يردنا إلى نقاش موازٍ أبعد خطوة عن كاريكاتورية “النقاش اللبناني بالشأن الفرنسي”، ذاك أن الثبات بصفته متلازمة وعينا بثقافة فرنسية يمكن مده إلى أبعد من هذه الثقافة في علاقتها بحياتنا العامة والخاصة. المسيحيون في لبنان دفعوا الجماعات غير المسيحية خطوة إلى الأمام من خلال علاقتهم القديمة بثقافات غربية، إلا أنهم جمدوا هذه العلاقة بفهمهم الضيق لها. هم تصدروا الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية اللبنانية في زمن جمهوريتهم على نحو أكفء من المسلمين حين حان زمن هؤلاء الأخيرين. الكفاءة عجزت عن التحول فرصة حين تحولت عصبا مذهبيا وطائفيا. وهي في مرحلة ضيقها وأفولها لم تتمكن من مواكبة أصلها وجذرها في الغرب. وجاء امتحان “السترات الصفر” ليكشف هول رداءة وعي الجماعة بنفسها وبنموذجها.
قد يميل المرء إلى تفسير كلام النائب أسود كجزء من لغة “المهاجرين البيض” ممن يؤيدون خيارات يمينية متطرفة في فرنسا وفي غيرها. نصيب هذا الافتراض من الصحة جزئي، ذاك أنه من جهة يفترض أن ما يمثله كلام أسود هو جزء من انقسام لبناني حول أحوال فرنسا وأهوالها، وهذا ليس صحيحا، وهو من جهة أخرى يستبعد حقيقة أن هذا الوعي مزود بمشاعر لبنانية حيال التظاهرة الفرنسية بصفتها تظاهرة مهاجرين مستجدين على فرنسا الثابتة وغير المتغيرة منذ قرن على الأقل.
المسيحيون الذين سبقوا غيرهم من الجماعات اللبنانية في إقامة علاقات ثقافية وسياسية مع النموذج الغربي، عجزوا عن مواكبة هذه المعرفة بما استجد عليها. فأن تقول لزياد أسود مثلا أن فرنساه كانت أحد الأمهات الكثيرات لتنظيم “داعش” مثلا، فهذا ما لا يمكن تصريفه في فهمه لمن كان يسميه أمه الحنون. “داعش” في وعي أسود ولدت في طرابلس في شمال لبنان. وأن تلفت نظره إلى أن المنتخب الفرنسي الذي فاز بكأس العالم تشكل من مهاجرين فهذا ما لا قيمة له بحسبه. أما ذروة الصدام فهو أن تقول له إن الفرنسي من أصل جزائري والمقيم في شارع باربيس في باريس يفوقه فرنسية هو المقيم في منطقة الرابية في بيروت، فهذا ما يمكن أن يدفعه إلى طلب حكم بإعدامك على نحو ما فعل زميله حكمت ديب حين طالب بأن “يطير رأس” راغب علامة لأنه أطلق أغنية تقول “طار البلد”.
من المبالغة تحميل المسيحيين اللبنانيين مسؤولية فشل لبنان في حماية قيم وثقافة غربية كانت أتيحت له قبل غيره، لا بل إن مسؤولية الجماعات الأخرى تبدو أكبر. لكن القسط الذي يتحمله المسيحيون من هذه المسؤولية ومن هذا الفشل يتمثل تماما في تحنيطهم هذه القيم وفي جعلها جزءا من هوية انقسامية وانكفائية، بدل اعتبارها قوة جذب إيجابية تمكنهم من استدراج الجماعات اللبنانية الأخرى نحو نموذج في الحكم وفي السلطة وفي العيش. ولنا في زياد أسود وفي صحبه درس كبير على هذا الصعيد.
الحرة