وليد شقير
يتأرجح لبنان بين السيء والأسوأ، ويعجز عن الثبات في موقع واضح في الجغرافيا السياسية المضطربة للإقليم، فينعكس الغموض على أوضاعه مزيداً من عدم اليقين في شأن مصيره والمعادلة التي سترسو عليها تركيبة الحكم فيه وفي اقتصاده المتعثر.
تعمي الشعارات التي تطلقها الطبقة السياسية المواطن العادي، عن جوهر وسبب أزمته. هل هو الفساد المستشري، أم الطبقة السياسية العفنة التي تحترف المحاصصة المقيتة التي تنهب ما يدفعه من ضرائب وخدمة دين متنام، أم النظام الطائفي وراء مآسيه، أم أن الأمر أبسط من ذلك، ويعود إلى رهنه للعبة الأمم وللصراع الدولي – الإقليمي الذي يستعر في المنطقة؟
يتأرجح لبنان بين الخضوع لمحور إيران- سورية- «حزب الله»، واندفاعة هذا المحور جراء نجاحه في تثبيت بشار الأسد في السلطة في سورية وفي اختراق الأمن العربي في اليمن ودول الخليج وغيرها من الدول، وتحكّمه بالنسيج الاجتماعي والسياسي في العراق، وبين الصمود في وجهه مع المحور المقابل، الأميركي – العربي الساعي لتقليم أظافر طهران ومعها الحزب المنتشر على غير جبهة عسكرية وأمنية. تزداد حيرة اللبنانيين بين توقع انكسار لبنان نتيجة هشاشته السياسية والاقتصادية والأمنية لوجود دولة الحزب بموازاة دولة العقد الاجتماعي المهتز، وبين الآمال بأن يحميه المحور الآخر، الأميركي العربي، من السقوط، بالاستثمار في مؤسساته على اهترائها.
ليس التأرجح بين المحورين الخارجيين وحده الذي يحكم الحياة السياسية اللبنانية، بل أن قراءة الفرقاء اللبنانيين للمعادلة الخارجية التي تتحكم بمصيره، تتراوح هي الأخرى بين طرف يذهب نحو التسليم بأن محور إيران – نظام الأسد- «حزب الله» هو الغالب، ووجب التسليم له، كما هي حال فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وبين طرف في السلطة يعتقد بأن هناك مجالا لحفظ نوع من التوازن بين المحورين في لبنان، تساعد المعادلة الطائفية والمذهبية الداخلية في ترجيحه.
ومع أن وجود فريق عون في رأس الهرم يخضع هو الآخر للتجاذب بين التسليم ل»حزب الله» لأنه مدين له بوجوده على رأس السلطة، وبين اضطراره لمعاكسة سطوة الحزب لأنها نقيض طموحه لممارسة الحكم، فإن هذا يعزز التناقضات في سلوك هذا الفريق. فهو تارة يخضع لمشيئة الحزب خوفا منه، ولضمان ديمومة دعمه لاستمراريته في السلطة في المرحلة التي تلي الولاية الحالية، وأخرى يسعى إلى التفلت منها، إما بتوسيع دائرة علاقاته الدولية التي غالبا ما تكون من وراء ظهر الحزب، أو بإعطاء الأولوية لمصالحه الطائفية، ولمنافعه في الدولة. هكذا يتنقل فريق الرئيس اللبناني بين إرضاء الأمين العام ل»حزب الله» السيد حسن نصر الله حين يزجره الأخير مذكرا إياه بكم مرة عطّل البلد لترجيح كفته على حساب غيره (كما فعل أخيراً)، فيخوض الصراع على السلطة مع شريكه المفترض، الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري وشركائه المسيحيين («القوات اللبنانية») بدلا من الاصطدام بالحزب. وتارة أخرى يضطر إلى مراعاة الشريك في السلطة مراهنا على الوقت، وعلى حاجة محور الممانعة إليه لتغطية وجوده خارج الشرعية ولتشريع هيمنته واعتماده لبنان حديقة خلفية وعملانية لنشاطاته الخارجية…
لكن هذا التأرجح اللبناني يقترب من مرحلة حاسمة في وقت يستخدم فريق «الممانعة» أوراق التفوق وفائض القوة التي لديه، ويصر على امتلاك المزيد من القدرات في مواجهة الضغوط الأميركية والعربية عليه، بينما بلغ الفريق الآخر مرحلة استحالة القدرة على تقديم التنازلات التي تدرج في القبول بها في السنوات الماضية. وهو بلغ درجة بات معها موسوما بالضعف والتخاذل والاستسلام، إلى حد صار الاعتقاد السائد أن هناك فريقا منهزما لأن حساباته وعدم تماسكه، تقوده إلى الخسارة، في وقت ليس صحيحا أن محور الممانعة منتصر وأمامه جولات كثيرة، هناك شكوك كبيرة في قدرته على ربحها.
وإذا كان محور الممانعة ماهرا بممارسة سياسة القضم، فإن الغاية التي تقلق الفريق اللبناني الذي يتحمل وزر تلك السياسة هي أن يكون هذا المحور قرر التعويض عن استثماراته الإقليمية التي قد تضطره الضغوط الأميركية إلى التخلي عنها، بإعطاء ذراعها اللبنانية أرجحية في المعادلة اللبنانية. وهذا يحتاج إلى تعديل اتفاق الطائف بالممارسة، عبر تكريس أعراف بداية، وهذا ما يحصل راهنا، ثم بالنص لاحقا.
وإذا كان من ممانعة في وجه «محور الممانعة» فإن ما يطرحه «حزب الله» من شروط لقيام الحكومة الجديدة لا يعني إلا فرض توقيع الحريري على ما يريد، كحد أدنى، وإخراجه من السلطة كحد أقصى. وفي الحالين يُضرب التوازن، إلا إذا استمر صمود الحريري وممانعة من معه، في وجه الشروط.