داود كتّاب
قد يفاجئ القارئ أنه في القرن الـ 21 لا يزال هناك من يبرر استخدام العنف “غير المؤذي” ضد النساء كجزء مهم من منظومة التربية!
فقد حاول قاضي القضاة الفلسطيني محمود الهباش إدخال استثناءات للتعهد الرسمي الفلسطيني حول اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو CEDAW)، لكن محاولاته جلبت رد فعل قويا من قبل المدافعين عن حقوق النساء. فالمدافعون عن حقوق المرأة لا يمكن حصرهم في النساء، فقط، بل هم شريحة من المجتمع برجاله ونسائه.
طرح الهباش تساؤلا خلال برنامج “آفاق”، الذي بثته فضائية فلسطين الرسمية في الثاني من كانون الأول/ديسمبر: “هل الضرب المؤدب غير المؤذي للنساء، يستخدم كوسيلة من وسائل التربية وتقويم السلوك أم لا؟ من الممكن أن نكون مختلفين من الناحية الاجتماعية في هذه الأمور، لكن هل نحن مختلفون بمبدأ الضرب كوسيلة تأديبية؟” قال الهباش، وأضاف: “العنف هو مجاوزة الحد في المعاملة بتعديل السلوك سواء كان العنف ماديا أو نفسيا أو معنويا، فالعنف من الممكن أن يكون عنفا نفسيا، وليس بالضرورة أن يكون جسديا كالسجن ومنع الحقوق”.
ردت الناشطة النسوية ريما كتانة نزال في مقال بالقول “متى كان الضرب غير مؤذ؟ (…) إنه منطق التمييز ضد المرأة على أساس الجنس، تشييء المرأة.. إنه المنطق الذي يقف خلف إصدار قوانين قاضية بتخفيف عقوبة الجناة من مرتكبي جرائم قتل النساء. تخفيف الضرب وتخفيف عقوبة القتل”.
كما استنكرت جمعية المرأة العاملة الفلسطينية للتنمية، في بيان لها، ما جاء على لسان الهباش من تصريحات “يشجع فيها على ممارسة العنف ضد النساء والفتيات “للتربية والتأديب”. وقالت الجمعية إن “هذه التصريحات تتزامن مع أنشطة الحملة العالمية لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، التي تقوم بها مؤسسات نسوية وحقوقية وتنموية وحكومية في معظم دول العالم، لتُرسّخ مبدأ رفض التمييز والعنف ضد المرأة والفتاة في التشريعات والثقافة والسلوك، على قاعدة إنسانية حضارية تعتبر حقوق المرأة حقوق إنسان غير قابلة للتجزئة أو التأويل”.
من المؤكد أن ما جاء في أقوال الهباش يتعارض مع مبادئ الدولة الفلسطينية على أكثر من صعيد؛ فمن البديهي أنها تتعارض مع الاتفاقيات الدولية والمعاهدات الحقوقية التي وقعت عليها فلسطين. بدءا من اتفاقية حقوق الإنسان وانتهاء باتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة والإعلان العالمي للقضاء على العنف، والبروتوكول الإضافي لاتفاقية سيداو. كما تتعارض أقوال القاضي الهباش مع القانون الأساسي الفلسطيني وحتى مع مبدأ تشكيل وحدات حماية الأسرة في جهاز الشرطة، التي تتولى استقبال التظلمات والشكاوى من ضحايا العنف الأسري.
لقد أنتجت هذه التصريحات ارتدادات متناسبة معها بالشكل والنوع، عبر بيانات وتحركات مستنكرة لها.
التوقيت المختار لم يكن صدفة. فبينما تنخرط الوزارات والجهات الحكومية ذات الصلة في وضع اللمسات الأخيرة على قانون حماية الأسرة لصالح تطويره وكفالته وحماية المرأة والطفل، من أجل أسرة آمنة ومستقرة خالية من التهديد، تأتي تصريحات قاضي القضاة بهدف التأثير سلبا على عملية الحوار الدائر بين الأطراف ذات العلاقة، أي المجتمع المدني والحكومة.
ومن خلال الردود، يمكن تلمس تخوف حقيقي من أن ما جاء في المقابلة يشمل تكريس للاستبداد الفكري ضد المرأة، وتشجيع على ممارسة سلوكيات استقوائية ضدها وتعريض عقول المواطنين إلى غزوة فكرية مهينة للمرأة وأدوارها وحقوقها، وتشجيع على الخضوع والخنوع والانقياد. ومن ناحية أخرى بدأت مواقع مجهولة بهجوم شرس على ناشطات فلسطينيات بسبب معارضتهم للهباش.
هذه ليست المرة الأولى التي يجد الهباش نفسه في عين العاصفة من خلال تصريحات وأعمال أدخلته في مشاكل في الماضي؛ فأقوال الناشط الحمساوي السابق والذي انقلب على “حماس” وأصبح من أكثر المقربين من الرئيس محمود عباس، بعد أن حذره من محاولة اغتيال له في قطاع غزة تعكس مواقف أصولية أقرب إلى خط متشدد دينيا من مواقف القيادة الفلسطينية، التي هي أقرب للدولة المدنية. فالهباش كثير الظهور في الإعلام ويعكس، أحيانا، فكرا دينيا متشنجا ورجعيا رغم ليبرالية وتعددية الحزب الحاكم في فلسطين وابتعاده عن الإسلام السياسي.
هناك من يتلحف بالدين وهو بعيد كل البعد عن الإيمان والتقوى ونظافة الأيدي واحترام حقوق الإنسان الذي خلقه الله.
إن خطورة الأقوال المتساهلة مع العنف ضد النساء والفتيات تأتي بالدرجة الأولى من موقع المتحدث، كقاض للقضاة، ووسيلة التعبير التي استخدمها، وهي التلفزيون الرسمي الممول من الشعب الفلسطيني مما يضفي شرعية على هذه الأقوال.
وقد يكون الأكثر خطورة هو ما جاء على لسان القاضي الهباش على موقع فيسبوك فيما بعد، والذي يعكس ما يفهم منه أنه تحد للنظام القائم في فلسطين ويرفض الالتزام بالقانون الأساسي والاتفاقيات الدولية حيث قال الهباش: “الشريعة فوق القوانين وفوق المعاهدات وفوق الاتفاقيات”.
وبهذا فإن قاضي القضاة محمود الهباش قد وضع نفسه خارج المنظومة القانونية التي أوصلته إلى موقعه ومن الضروري ألا يتم التهاون أو التسامح مع مسؤول رفيع المستوى يحاول بأقواله رفض الانصياع إلى القانون والالتزامات الدولية ويمهد لقيام دولة دينية يتحكم فيها رجال دين في حياة الناس بناء على تفسيرهم الضيق للنصوص الدينية.
الحرة