كوليت بهنا
بسبب استقلالها النسبي عن السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر، تميزت مصر بداية القرن العشرين وحتى منتصفه بتطورها المدني والحضاري على كافة الأصعدة. عرفت كمنارة عربية استثنائية فتحت ذراعيها للوافدين إليها ومنحتهم الفرص لتحقيق الثروات والشهرة في كافة المجالات وبخاصة الفنون والإبداع، دون أن يعني ذلك أن سُبُلهم كانت سهلة ومعبدة بالزهور في المطلق.
تشرح السيرة الذاتية لحياة أي من الوافدين بدايات حياتهم الصعبة وكافة العراقيل التي وضعت في طريقهم والحروب التي خاضوها لإثبات وجودهم وتكريس أسمائهم في جو مفعم بالتنافسية، لكن معظم من قصدها “تمصرن” في المحصلة، وبخاصة نجوم الفن والغناء الذين صاروا جزءا أصيلا من النسيج الفني والإبداعي المصري، وتركوا آثارا قيمة تسجل اليوم كعلامة فارقة وقيمة مضافة في التاريخ المصري.
من بين المبدعين الكبار الذين احتضنهم مصر، الأمير فريد الأطرش، وهو الموسيقار والملحن والممثل والمنتج الذي تحل ذكرى وفاته الرابعة والأربعين في السادس والعشرين من شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري، والذي غادر إلى مصر وهو طفل مع والدته وأخوته من مدينة السويداء في الجنوب السوري هربا من تنكيل الاحتلال العثماني لأسرته ومن ثم ملاحقة الاحتلال الفرنسي. وأسرته عائلة أمراء عريقة تنحدر من سلالة فخر الدين المعني عرفت تاريخيا بمواقفها النضالية والوطنية وقيادة الحركات التحررية ضد المستعمرين. عاش فريد في مصر بداية حياته مع أسرته كأمير فقير إلى أن وضع هو وأخته آمال المعروفة باسم أسمهان خطواتهما الأولى في درب الفن والمجد والشهرة منحتها لهما مصر بكثير من التقدير والامتنان لإبداعيهما.
لم يكن فريد الأطرش أول من قصد مصر، إذ عرفت أم الدنيا بدايات القرن العشرين هجرات كثيرة لعائلات وأفراد جاؤوها من بلاد الشام التي كانت تغرق في الحروب والاضطرابات والمجاعات، يسمون إلى اليوم بـ “شوام مصر” وعملوا في مجالات اقتصادية هامة من أبرزها قطاع المصارف وصياغة الحلي الذهبية والحرف التراثية اليدوية والتجارة المعروفين تاريخيا بأنهم من “شطّارها”. ساهم هؤلاء في تأسيس الصحافة المصرية والسينما والمسرح.
وفي مجال الفن والإبداع تحديدا، سطع نجوم كثر من أشهرهم أنور وجدي وبديعة مصابني وفايزة أحمد وسعاد حسني وشقيقتها نجاة الصغيرة المنحدرتان من عائلة “البابا” الدمشقية، وعمر الشريف المنحدر من عائلة “شلهوب” في مدينة زحلة اللبنانية.
كما هرب اثنان من عائلة بهنا من مدينة حلب بداية القرن وساهما كرائدين في بدايات السينما المصرية وأنتجا أول فيلم مصري ناطق، إلى أن تحولا لاحقا من الإنتاج إلى التوزيع وعرفت شركتهما، “بهنا فيلم”، كأكبر وأشهر شركة توزيع للأفلام في العالم العربي.
وقبل هؤلاء جميعا قصد مصر، في القرن التاسع عشر، أبو خليل القباني رائد المسرح العربي ورائد المسرح الغنائي المصري والعربي، هربا من بطش العثمانيين والظلاميين الذي نكلوا به وبمسرحه في دمشق.
مصر المنفتحة تلك غير مصر اليوم التي لجأ إليها آلاف السوريين بعد عام 2011 ينشدون الأمان والاستقرار والعمل. دخلوها بداية بدون تأشيرة دخول، وسجل بعضهم بصفة لاجئين دون أن يقيموا في مخيمات مثل حال السوريين في الأردن ولبنان وتركيا، وانخرط معظمهم في سوق العمل المصرية يستثمرون ما حملوه معهم من أموال.
قلة من السوريين الذين لجأوا إلى مصر من فئة التجار والصناعيين الكبار المعروفين في السوق السورية، وفتحوا المصانع أو المتاجر الكبرى المشابهة لتلك التي كانت في المدن السورية والتي ترفد الاقتصاد المصري اليوم؛ فيما الأغلبية، وهم من الحرفيين أو ذوي الدخل المحدود تعاونوا لإقامة مشاريع صغيرة تعيلهم، وأبرزها تلك المختصة في الحرف الصغيرة وصناعة الأطعمة السورية، ورغم أنهم آثروا العمل وعزة النفس، لم ينج هؤلاء “الشوام” المنكوبين من الاتهامات التي تكال لهم بين الحين والآخر بسرقة فرص العمل من المصريين، إضافة إلى اتهامات سياسية وأيديولوجية سابقة وجهت لبعضهم بمشاركتهم في الاضطرابات التي حدثت خلال مرحلة إسقاط الرئيس السابق محمد مرسي.
وعليه، أغلقت أبواب مصر عام 2013 في وجه السوريين وحتى اليوم، حيث لا يسمح بدخولهم من مختلف الفئات العمرية إلا بتأشيرة دخول وموافقة أمنية، وكثيرا ما يدعى نجوم الإبداع أو الكتاب من السوريين للمشاركة كضيوف شرف أو المشاركة بأعمالهم الإبداعية في مهرجانات فنية، لكنهم إن تمكنوا من الحصول على تأشيرة دخول بعد توصيات شديدة من إدارة المهرجان، إلا أن معظمهم لا يتمكنون من الحصول على الموافقة الأمنية “الغريبة” في الأعراف الدولية والدبلوماسية، كما لا يسمح بلم الشمل وزيارات الأهل لأبنائهم أو الأبناء لأهاليهم حتى لمن يحملون وثائق سفر من دول اللجوء عبر العالم إلا بوساطات كبيرة أو التسلل بطرق غير شرعية عبر الصحراء السوادنية ـ المصرية.
صحيح أن كافة الدول العربية، عدا السودان، أغلقت أبوابها رسميا في وجه السوريين، إلا أن وقع الأمر عليهم في مصر كان أكبر وأكثر إيلاما لمكانة مصر في ذاكرتهم ووجدانهم والعلاقات الطيبة والتاريخية المتبادلة بين الشعبين، مع التنويه إلى أن أغلب السوريين في مصر اليوم يشيرون باستمرار إلى طيبة ومحبة الشعب المصري وتعاطفه مع أوجاع السوريين ومعاملتهم كأشقاء يمرون في محنة عسيرة.
ولا شك أن هذا التضييق بأشكاله على السوريين ليس إلا محض سياسة أنظمة لا تنفك تردد شعارات كبرى واهية حول وحدة الشعوب العربية والمصير المشترك والقومية العربية، ومن بينها تلك الأغنية التي يتذكرها السوريون جيدا وكانت الإذاعة المصرية تبثها باستمرار في زمن الوحدة السورية المصرية 1958 ـ 1961 يردد فيها محمد قنديل من كلمات بيرم التونسي “أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام”.
الحرة