محمد المحمود
يقوم الخطاب الديني بدور محوري وحاسم في تشكيل مُجملِ التصورات العامة، وتأطير المسارات التي تتخلّق فيها أنماط التفكير السائدة في المجتمع الإنساني؛ سواء كان ذلك بشكل مباشر يعلن عن نفسه في صريح الخطاب، أو بشكل غير مباشر، مثلما هو الحال في المضمرات الثقافية الأولى/ اللاّواعية المرتبطة بالتراث، والتي تتأسس عليها كثير من مقولات الحداثة والتنوير التي تبدو وكأنها تقطع مع القديم، وتنقضه، بينما هي تتطور من خلاله في خلق جديد.
في كل الأحوال، نجد أن أثر الدين يزداد قوة وحسما؛ بمقدار ارتهان المجتمع المتدين إلى التراث الديني القديم من جهة، وتجافيه عن الإرث الحداثي الذي يربطه بعصره الراهن ـ المُرتهن به ضرورة ـ من جهة أخرى. ومع وضوح هذا الأثر الفاعل والحاسم في الحاضر والمستقبل، إلا أن كثيرين يتصورون إمكانية التحديث؛ دون المرور بالمرحلة المقلقة: مرحلة الإصلاح الديني الذي يأخذ على عاتقه مهمة مساءلة التصورات الأساسية المتعلقة بفلسفة الحياة والمجتمع والأخلاق والسياسية والتاريخ.
يظن كثير من المثقفين ومن الإعلاميين ومن المعنيين بالحراك المجتمعي في العالم العربي أن المشكلة الدينية يُمكن تجاوزها بتجاهلها، أو تهميشها، أو الاكتفاء منها بما يقنع المجتمع في هذه المسألة أو تلك؛ بناء على تصور اختزالي لأبعاد الفاعلية الدينية، أي على اعتبار أن الدين هو ـ تحديدا: ما تراه دينا صريحا في الواقع، أو هو ما تسمعه صراحة من رجل الدين/ الواعظ الديني الذي يعلن ـ بكل وضوح ينبض بالثقة الساذجة ـ أنه يتحدث بلسان الله؛ كواسطة بين السماء والأرض، بين الله والإنسان!
يؤكد المفكر الجزائري الفرنسي/ محمد أركون أهمية الاشتغال على الخطاب الديني؛ لأن ذلك من ضروريات فهم الواقع، كما هو من ضروريات التأثير فيه، مُبيّنا أن هذه الأهمية لم تتضح ـ بجلائها ـ إلا أواخر القرن العشرين، بينما كان الأمر مختلفا في ثلاثينيات القرن العشرين، إذ كان النقاش في المسائل الدينية أو محاولة إعادة الدين إلى الاضطلاع بدور ثقافي يرمى به في سلة المهملات، في ساحة الليالي، القديم البدائي، كما كان يظهر في شعار: الله فرضية لا جدوى منها. اليوم ـ كما يؤكد أركون ـ تغيّرت الأوضاع نسبيا وأصبح الثقل البشري والسياسي للأديان يُجْبِر الباحثين العِلميين والمسؤولين على إعادة النظر في العلاقات الكائنة بين العامل الديني والعامل السياسي والعامل الفلسفي (معارك من أجل الأنسنة، محمد أركون، ص79/80).
طبعا، ما يقصده أركون من “المسائل الدينية” ليس فروع الفقهيات الجزئية التي يتطارحها الفقهاء ـ اتفاقا واختلافا ـ داخل المذهب الواحد، أو حتى بين المذاهب في إطار الدين الواحد. ما يقصده هو مسائل كبرى، تتعلق بفلسفة الدين ككل من جهة، وبالأصول العقائدية والمرتكزات التراثية المؤسسة للخطاب الديني من جهة أخرى. فهذه هي التي يشتغل عليها المعنيون حقيقة بالتغيير والتطوير، وصولا إلى التحديث، ومن ثم إلى أزمنة الحداثة، التي يعني الدخول في مضمارها الدخول إلى العصر بكل اشتراطاته المتعولمة كأفق للوعي الإنساني في مستوى تطوره الراهن.
إن مظاهر التحديث العملية التي يتقدم بها بعض الإسلاميين كشواهد على تحولات حداثية يجترحونها ويروجون لها، والتي قد تبدو مُتَعيّنة في سلوكيات ظاهرة، أو حتى في ثقافة شعاراتية ناطقة، بحيث تبدو وكأنها مجرد حالات انعتاق جزئية/ ظرفية من أسْرِ منظومة تراثية تتسيّد ـ بمشروعيتها ـ المشهد الديني الراهن، لا علاقة لها بالإصلاح الديني الحقيقي الذي يفترض أنه يطال الإشكالية الدينية في عمقها، ويُسائل جذورها تفكيكا وتأويلا وتحويلا، ومن ثم استثمارا لكل ذلك في الواقع.
إن حالات التمرد الانعتاقي التي طبعت مسار كثير من جماهير الإسلاموية المعاصرة، إلى درجة انقلاب بعض أطياف هذه الإسلاموية على ذات مقولاتها التي تشرعنت بها في الواقع، وتمكنت من مراكمة الرأسمال الرمزي بواسطتها، ليست أكثر من تَسَاوق ذرائعي مع منطق السوق الفكري الرائج؛ نتيجة الفشل الذريع الذي بدا واضحا في المسار الإسلاموي على مستوى تنظيم وتطوير الشأن الحياتي في ضرورياته اليومية، أي الفشل المتكرر في توفير كل ما من شأنه أن يحقق ولو مستوى معقولا من التناغم مع متطلبات العصر، تلك المتطلبات الذي أثبتت التجربة الإسلاموية ذاتها أن لا أحد يستطيع الانعتاق من ضروراتها بالكامل؛ وإلا كان هو الخاسر أولا وأخيرا.
إن هذا التمرد أو الانعتاق أو التنازلات الجزئية التي يقوم بها المتأسلمون بغية تحقيق مستوى من الاندماج المعقول مع روح العصر، هو صورة تقترب ـ قليلا أو كثيرا، وفي سياقات متعددة ـ مما أطلق عليه الباحث السويسري/ باتريك هايتي: “إسلام السوق”، هذا “الإسلام العصراني” القابل للتسليع وفق شروط السوق، لم يكن خيارا أصيلا؛ بقدر ما كان خيارا بديلا؛ نتيجة فشل الإسلاموية في تحقيق مشروعها رغم مرور أكثر من ثمانين عاما على انطلاقتها الأولى. يقول هايتي “يبدو أن السردية الإسلاموية الكبرى التي طالما استندت إلى مركزية المُكوّن الديني في تقديم البديل الحضاري فقدت نَفَسَها الطويل. هذا التراجع، ولارتباطه بمسار البَرْجَزة الذي دَاخَل حركة الأسلمة يمكن اعتباره نقطة انطلاق كل التحولات الجارية” (باتريك هايتي، إسلام السوق، ص47).
لكل هذا، لا بد من التأكيد على أن ما يميز الخطاب الديني الإصلاحي عن الخطاب الديني التقليدي، الراديكالي في مواقفه الحدّية، ليس أن ممثلي الأول يتسامحون في الجزئيات، ولا أن أزياءهم وأنماط حياتهم عصرية، بل ولا أن بعضهم درس في أرقى الجامعات الغربية، أو سلخ معظم عمره في أعرق دول الحداثة، وإنما ما يميز الخطاب الإصلاحي أنه يتخذ من مراجعة التراث ونقده وتفكيكه وإعادة تركيبه، بكل مكوناته، منطلقا لما يتقدم به من رؤى حديثة تحاول مواكبة روح العصر. بمعنى أنه يؤصل لتحولاته في الراهن المتعين بتحولات مرتبطة بإعادة تشكيل الوعي من خلال إعادة تشكيل التراث.
مثلا، لا يمكن أن يكون الخطاب الإسلامي الذي يتردد في مراجعة ما كتبه البخاري في السياق السني، أو الكليني في السياق الشيعي، خطابا إصلاحيا، لا من قريب ولا من بعيد. فكيف والمؤسسات المرجعية المعتمدة لا تمتنع عن القيام بمثل هذه المراجعة النقدية فحسب، وإنما نجدها تُؤَثّم وتُجرّم، بل وتضطهد إن استطاعت، كل من يحاول إعادة موضعة التراث في سياقه التاريخي، ومن ثم تحليله تحليلا شاملا؛ من حيث ظروف النشأة وملابساتها، وطبيعة التكوين، والمؤثرات والدوافع التي رافقت النشأة والتكوين، ثم الانفتاح على فضاءات التلقي وتنوعها، ومسارات التوظيف وإشكالياتها، ثم تتبع التحولات في كل ذلك عبر الزمن، وصولا إلى اللحظة الراهنة ومشروطيتها… إلخ.
يشهد الواقع أن كل الأصوات الفكرية والثقافية التي لامست موضوع الإصلاح الديني بما لا يتوافق مع السائد الديني التقليدي، قابلتها المرجعيات المؤسساتية وغير المؤسساتية بما يخالف دعوتها العلنية للدعوة بـ”التي هي أحسن”، بل إنها لم تكتفِ بالعنف اللفظي، ولا حتى بالتكفير الصريح، بل جاهرت بالتحريض في كل مناسبة سانحة، ودعت للمنع والقمع والردع، واعتمدت مسلكيات النفي والإقصاء صراحة، في الوقت الذي تزعم فيه قبولها الحوار مع “الآخر”، ولو كان من غير المسلمين.
عموما، وبصرف النظر عن كون الأصوات الناقدة للموروث الديني مصيبة أو غير مصيبة، صادقة أو غير صادقة، جادة أو عابثة، فالمتقرر ـ بحكم المعطيات الواقعية/ الوقائعية ـ أن التعامل مع الجميع كان رفضا وتجريما، وأحيانا تكفيرا، ما يعني أن العرب لا يزالون بعيدين عن الدخول إلى العصر الحديث بشروطه الفكرية والثقافية التي تتضمن تغييرا في نظام العقل الكلي/ الوعي العام.
قد يغضب بعضنا من هذا التوصيف، ويراه متشائما، أو لا يعكس واقع الحال. لكن، مهما حاولنا فصورة الواقع لا تُقدّم أكثر من هذا، على الأقل في اللحظة العربية الراهنة.
إلى الآن، لم نتقدم خطوات حقيقية في هذا السياق. واقع ثقافي عربي مؤلم، وعن هذا الواقع المؤلم يقول الباحث المصري/ نصر حامد أبو زيد، بعد أن خاض تجربة صعبة أوائل التسعينيات من القرن الماضي، تجربة أصبحت علامة فارقة في السياق الثقافي العربي: “يظل الحديث عن تأويل العقائد أو نقد التراث ـ وهو ما حققه الغرب في سعيه لتجاوز العصور الوسطى ـ حديثا محرما” (الخطاب والتأويل، نصر حامد أبو زيد، ص73).
هكذا يختصر أبو زيد الواقع الثقافي، بعد أن لاحقه سدنة التقليد في ساحات القضاء، واستطاعوا استصدار حكم برِدّته وتطليقه من زوجته بناء على حكم الردّة؛ كعقاب له على محاولته التفكير بصوت عال في مسائل التراث الديني، ليكون ما حدث له (وبصرف النظر عن تقييمنا لمنجزه في هذا السياق) ردعا لكل من تحدثه نفسه باستخدام عقله في هذا المجال.
الحرة