أقلام مختارة

أوهام ‘جنة العبيط’ واستدامة التخلف

بابكر فيصل

بابكر فيصل

في أربعينيات القرن الماضي كتب الفيلسوف المصري الراحل زكي نجيب محمود، مقالا بعنوان “جنة العبيط” يسخر فيه من الشخص المتخلف الذي يعيش في الأوهام ويخلق جنة من النعيم يحيا فيها ولا يسعى للخروج منها، ويكون سعيدا ومبتهجا في أحضان جنته تلك ومصدر حبوره وسعادته هو جهله بمدى تخلفه!

لعل الفيلسوف الراحل قصد من مقاله ذاك أن يتطرق للأوضاع البائسة التي تعيشها المجتمعات العربية والإسلامية مقارنة بالتقدم الكبير الذي أصابه الغرب، وذلك عبر مناقشة الادعاء التبريري السائد في تلك المجتمعات والذي يقول إن المسلمين متفوقون على الغرب في الأخلاق والفضائل بينما الأخير متقدم ماديا فحسب، وهو ادعاء ساذج من شأنه استدامة حالة التخلف الحضاري “جنة العبيط”.

يقول زكي نجيب على لسان صاحب تلك الجنة: “أنا في جنتي الحارس للفضيلة أرعاها من كل عدوان، لا أغض الطرف عن مجانة المجان، والعالم حول جنتي يغوص إلى أذنيه في خلاعة وأفك ورذيلة ومجون، دعهم يطيروا في الهواء ويغوصون تحت الماء، فلا غناء في علم ولا خير في حياة بغير فضيلة، دعهم يحلقوا فوق رؤوسنا طيرا أبابيل ترمينا بحجارة من سجيل، فليس الموت في رداء الفضيلة إلا الخلود، أني والله لأشفق على هؤلاء المساكين، جارت بهم السبل فلا دنيا ولا دين”.

الأفضلية الأخلاقية التي يدعي “العبيط” أن جنته “مجتمعات المسلمين” تتفوق فيها على الغرب تتمثل أساسا في موضوع الجنس، وهو الأمر الذي ألمح إليه الفيلسوف الراحل بعبارة “خلاعة ومجون ورذيلة وإفك”، وهي مفردات تحيل مباشرة إلى العلاقات الجنسية التي يزعم “العبيط” أنها تشكل التمظهر الأهم للأخلاق.

ومع التأكيد على أن الأخلاق تشتمل على أبعاد أهم بكثير من العلاقة الجنسية بين شخصين، فإن المتأمل في أوضاع المجتمعات العربية والإسلامية يلحظ بوضوح الانتشار الواسع لجرائم الاغتصاب والتحرش الجنسي والشرف والخيانة الزوجية وزنا المحارم وزواج القاصرات، بالإضافة إلى العديد من الصيغ المستترة للدعارة من شاكلة زواج المسيار والمتعة وغيرها مما يؤكد أن الفضيلة التي يباهي بها “العبيط” في هذا الإطار مجرد وهم وليست حقيقة!

كذلك يدعي “العبيط” أن جنته تتفوق على الغرب في فضائل أخرى مثل الإحسان، وها هو يقول: “فالقرش والمليم هو معنى الإحسان في الغرب الذميم، الذي غلظت فيه الأكباد، كأنما قدت من صخر جماد، كم جامعة عندهم أنشأها ثري؟ وكم دارا أعدها للفقير غني؟ كم منهم يلبي النداء إذا ما دعا الداعي بالعطاء؟ لا، بل إن الغرب المنكود ليسير إلى هاوية ليس لها من قرار إذ هو يسعى إلى محو الفقر محوا، حتى لا يكون لفضيلة الإحسان عنده موضع! فاللهم إني أحمد أن رضيت لي الإسلام دينا، وجعلت لي الإحسان ديدنا”.

لا يدرك “العبيط” أن الغرب قد تخطى المفهوم التقليدي الشائع للإحسان والذي ينطوي على معنى العطف الذي يصاحبه بالضرورة الانكسار من جانب المعطوف عليه، وأصبح يعتمد على المؤسسات التي تقدم الضمان الاجتماعي كحق للمواطن وليس كصدقة أو منحة، إلى جانب تبني السياسات الهادفة للقضاء على الفقر في المجتمع.

بالإضافة إلى هذه الأدوار المؤسسية التي تلعبها الدولة، فإن الأغنياء (أفرادا وعائلات) في المجتمعات الغربية يساهمون عبر التبرعات الضخمة في إنشاء الجامعات ومراكز البحث العلمي والمستشفيات ودور الأيتام وغيرها، وهو الأمر الذي يضمن استدامة المستويات المتطورة من الحياة، ولا يقف عند حد الرضا الشخصي النابع من فعل العطف.

والأهم من ذلك أنهم لا يكتفون بلعب ذلك الدور داخل بلادهم فحسب، بل يخرجون به إلى مختلف أنحاء المعمورة، حيث يتبرعون بمليارات الدولارات للقضاء على الفقر والأمراض المستوطنة في إفريقيا وآسيا وغيرهما، بينما الأثرياء في “جنة العبيط” يتنافسون في الصرف البذخي والتفاخري على الزواج وموائد الطعام وشراء القصور والمنتجعات واليخوت وقضاء العطلات الصيفية.

في هذا الإطار كذلك يتوجب على “العبيط” أن يتساءل: لماذا يُجازف مئات الآلاف من اللاجئين العرب والمسلمين بأرواحهم ويقطعون الحدود البعيدة الفاصلة بين حدود جنته والعالم الغربي ليتزاحموا على أبواب برلين وباريس وبودابست بينما لا تراهم يقفون على أعتاب مكة ودبي والكويت وغيرها؟ وهل تميل كفة الميزان الأخلاقي لجانب الدول العربية الغنية التي ترفض احتضان هؤلاء اللاجئين أم للدول الأوروبية والغربية التي تفتح لهم أذرعها!

غني عن القول إن القيم الأخلاقية العامة التي تتعدى نطاق الفرد لتؤثر على المجتمع بشكل عام، من نحو احترام القانون والوقت وإتقان العمل وعدم الكذب ورفض الفساد والمحسوبية، هي الجانب المهم جدا من الأخلاق الذي يؤدي إلى تقدم الأمم والشعوب. وفي هذا الإطار لا يجرؤ “العبيط” على الحديث عن التفوق الكبير للغرب، كما أنه يصمت عن الأدواء الأخلاقية العامة التي تمتلئ بها جنته المزعومة حتى تفيض.

إن النظرة الموضوعية الفاحصة تبين بما لا يدع مجالا للشك بلغة القانونيين أن الدول العربية والإسلامية التي تدعي التفوق الأخلاقي تأتي في مقدمة ركب الأمم من حيث انتشار الفساد والرشوة والنفاق الاجتماعي والكذب!

بالطبع لا ينفي كاتب هذه السطور أن الغرب يعاني من بعض المشاكل الأخلاقية، ولكن تلك المعاناة أقل بكثير مما هو موجود في المجتمعات العربية والإسلامية. ويمتاز الغرب بأن إطاره الأخلاقي الذي يتأسس على الحرية والصراحة والمكاشفة يُعينه على معالجة تلك المشاكل بينما يصعب هذا الأمر في “جنة العبيط” التي تسود فيها ثقافة الإنكار والتغطية والتمويه مما يؤدي لتراكم الاختلالات الأخلاقية وتفاقمها.

غير أن أخطر الإشكاليات المرتبطة بذلك “العبيط” تتمثل في رضائه التام عن أوضاعه المتخلفة باعتبار أنه الأكثر علما ومعرفة وفضيلة وبالتالي فإنه لا يعمل على تشخيص عيوبه وتصحيحها، فهو كما يقول: “أنا في جنتي العالم العلامة، والحبر الفهامة، أقرأ الكف وأحسب النجوم، فأنبئ بما كان وما يكون، أفسر الأحلام فلا أخطئ التفسير، وأعبِّر عن الرؤيا فأحسن التعبير، لكل رمز معنى أعلمه، ولكل لفظ مغزى أفهمه”.

هذه الأفضلية المتوهمة والغرور الساذج لا يسمح “للعبيط” بنزع القناع الزائف الذي يحجب عنه رؤية الحقيقة حتى يُدرك مدى التخلف الذي يعاني منه، فهو لا ينتج شيئا مفيدا لنفسه وللبشرية، بل يعيش على الاكتشافات والابتكارات التي تبدعها عقول الآخرين، ويستهلك كل ما ينتجونه، من الإبرة وحتى الهاتف الجوال والطائرة!

بالطبع يفوت على ذلك “العبيط” أن جميع هذه الاختراعات وما يرتبط بها من تطور علمي ومعرفي ومادي أدى إلى ارتفاع مدهش في مستويات الحياة والرفاهية في الغرب قد استندت على أرضية أخلاقية صلبة تعززها قيم الحرية والعمل والإتقان والصدق، وهو الأمر المفقود في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي ينصب كل همهما في أخلاق الجنس.

إن طريق الخروج من نفق التخلف يبدأ من إدراك “العبيط” لحقيقة الأوضاع التي يعيشها داخل جنته، وأن يتخلص من الأوهام ويتصدى لعلاج الأدواء التي يعاني منها بشجاعة، فالتخلف الذي يعاني منه لم يقع عن طريق الصدفة وليس هو النتيجة الحتمية لمؤامرة خارجية دبرتها قوى معادية، بل هو في الأساس وليد الحالة العقلية البائسة التي ظل يعيشها منذ عدة قرون.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق