*كيرلس عبد الملاك
خلال الفترة الماضية وصلتني الكثير من التساؤلات عن أسباب توقف صحيفة المقال المصرية عن الصدور الورقي باعتباري أحد كتابها، حيث أن هذه الصحيفة المستنيرة استطاعت خلال فترة وجيزة وبقدرات مادية محدودة أن تصنع لها جمهورها الخاص الطامح إلى الاستنارة والجائع للمعرفة، وإلى الآن تصلني إشادات لها من شباب وشيوخ رأوا فيها مستقبل ثقافي وتوعوي باهر ومع ذلك تم إحباطها مؤخرًا بعد أن كشّرت السلطة المصرية عن أنيابها تجاه كل لسان ناقد و كل قلم معارض.
هناك سببين لتوقف صحيفة المقال عن الصدور الورقي، السبب الأول والأصيل يتعلق بالسياسة الحالية للدولة المصرية التي تستهدف تسيير جميع الأصوات الصحفية والإعلامية في طريق واحد يتمثل في التأييد الحاد المطلق لرئيس الجمهورية وحكومته ما يجعل من صحيفة المقال وأمثالها من الصحف إصدارات مكروهة ومرفوضة من أجهزة الدولة وهنا يأتي السبب الثاني لتوقفها والناتج عن السبب الأول وهو تراجع رجال الأعمال عن الإعلان على صفحاتها فمن المعروف أن رأس المال جبان يخشى دائمًا الاصطدام بالسلطة في دولة لا تعرف طريقا للفصل بين السلطات.
صحيفة المقال المصرية ليست أفضل حالاً من مئات المواقع الإلكترونية الصحفية وغير الصحفية على شبكة الإنترنت التي حُجبت عن مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي لأنها اتخذت طريقا معارضًا للسلطة، ما يراه المؤيدون للسلطة ضبطًا للمهنة الصحفية والإعلامية بكاملها على غير الحقيقة، فضبط الصحافة والإعلام لا يتم إلا بالرجوع للقواعد المهنية والاحتكام للقانون العادل الذي يعرفه القانونيون جيدا أما التوجيه المبني على التسلط أو السلطوية لدعم رأي واحد صادر عن الحاكم لا يُنتج إلا صحافة مريضة بالخوف مفرغة من دورها الداعم للاتزان الفكري في المجتمع ومثلها الإعلام أيضا.
لست مطالبًا بأن تقبل كل الأفكار المعروضة في صحيفة ما ولست مجبرًا على أن تخضع لأفكار رائجة على شاشة قناة فضائية معينة لك كامل الحرية في القبول أو الرفض، أنا شخصيا اختلفت مع عدد ليس بقليل من الأفكار التي نشرت على صفحات صحيفة المقال على الرغم من أنني كاتبا فيها ولم يزعجني وجودها لأن الاختلاف الفكري في حد ذاته يخلق قيمة ثقافية داخل المجتمع ويشجع على قبول الآخر بما يحمله من أفكار مختلفة طالما توجد الحرية الكافية لعرض الأفكار المعاكسة لها “فيما لا يدعو لعنف أو كراهية.”
أي شخص ناضج يدرك أن الاختلاف الفكري على أرضية المواطنة يشكل ثراءًا مجتمعيًا يسهم مباشرة في تنمية الوعي ما يؤدي بدوره إلى بناء الإنسان والارتقاء بسلوكه، هذا الإنسان الذي بيده أن يطوّر مجتمعه كما أن بيده أن يميت الحياة داخله إذا ما أصيب بأحادية الرؤية.
الإعلامي المصري إبراهيم عيسى ورئيس تحرير صحيفة المقال اتخذ قراره الصعب بفتح أبواب المعارضة ودفع ضريبته المتمثلة في توقف صحيفة المقال عن الصدور في وقت اختار فيه العدد الأكبر من الصحفيين المصريين أن يسير مع الركب العام خوفا على مستقبله المهني، لا شك في أن تاريخ الصحافة المصرية لن ينسى لعيسى هذا الموقف المشرف الذي أظهر فيه تمسكا بأفكاره وتوجهاته، ربما يختلف البعض مع مواقفه في وقت من الأوقات تلك المواقف التي حسبوها تنكرًا لتوجهاته الفكرية أو خروجًا عن مسلك سياسي معين لكن على أي الأحوال وبغض النظر عن الاختلاف والاتفاق مع مواقفه السياسية السابقة لا يمكن إنكار جهوده الصحفية والإعلامية المؤثرة على الساحة الثقافية المصرية، كما لا يمكن تجاهل موقفه الأخير من حرية الصحافة المتمسك باستمرارية المعارضة بخلاف الموقف الشائع.
الصحافة المصرية تعاني لذا فالحرية أيضا تعاني لأن الصحافة هي مقياس الحرية والحرية هي مقياس الحياة السوية والعقل الناضج المتحضر، حينما تدرك مصر هذا المبدأ لابد أنها سوف تنجو من شرور طريقها المستقبلي وأخطرها تغييب العقل الجمعي.
*كاتب من مصر