وليد شقير
فعلها مجدداً دونالد ترامب بقراره المفاجئ للبعض، وغير المفاجئ للبعض الآخر، سحب زهاء 2500 جندي أميركي من شمال شرق سورية.
وإذا كان بعض حلفائه أقر بأنه لم يتفاجأ كما أعلن البريطانيون، فإن خشيتهم من الغموض الذي يكتنف مرحلة ما بعد الانسحاب يجعلهم في مصاف المتفاجئين.
قبل التفتيش عن الانعكاسات الأكيدة المتشعبة الأبعاد للخطوة الأميركية على الصعد الإقليمي والسوري والشمال الشرقي في بلاد الشام… وتأثيرها المباشر على كل دول المنطقة، من المفيد البحث عن أبعاد أكثر استراتيجية في التوجه الأميركي الذي يتجاوز الأسلوب «المتطاير» لترامب في ممارسة السياسة الخارجية، كما تصفه مجلة «فورين أفيرز».
وإذا كان ضرب ضربته ودعا «الآخرين» إلى الحلول مكانه في قتال «داعش» في سورية، فإن قراره يأتي في إطار سلسلة خطوات أميركية انسحابية سبقه إليها سلفه باراك أوباما، وقد يلحقه فيها خلفه.
استراتيجياً؛ إنه توجه الestablishmentـ الأميركي بخفض اهتمام الدولة العظمى في الشرق الأوسط الذي بدأ مع أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، اللذين اعتبرا أن مستقبل السياسة الخارجية بات في التركيز على مصالح أميركا في شرق آسيا، لأسباب تجارية وعسكرية. ولعل هذا الجذر في السياسة الأميركية هو الذي سمح للكثير من القوى الإقليمية أن تحل مكان المساحات التي أخذت واشنطن تهيء لإخلائها، ومنها تركيا وإيران في منطقتنا، في كنف الغيبوبة العربية.
وعلى رغم اختلاف أسلوبه، لم يكذب ترامب خبراً. فالحرب التجارية التي يخوضها مع الصين، مستبقا صعود سياستها الخارجية المخطط له من قبل الحزب الشيوعي القائد، بدءاً من عام 2020، استناداً إلى توسع اقتصادها داخلياً خارجياً، ليست إلا أحد مظاهر هذا الانتقال الاستراتيجي إلى حقبة جديدة لدى الدولة العميقة في واشنطن. ولعل ترامب أضاف إلى اهتمامات الإدارة السابقة عنصراً جديداً يبدو سوريالياً، إذا قورن بأولوية التوجه نحو آسيا، هو أنه قبل أربعة أيام من قراره الانسحاب من شمال شرق سورية طلب من البنتاغون إعداد قيادة عسكرية في الفضاء الخارجي.
مشروع القول ما لنا بهذا البعد الاستراتيجي؟ فالبحث عن الآثار التي تهم الشرق الأوسط أجدى من البحث الهمايوني في شؤون تلامس الخيال.
في الملاحظة قدر كبير من الصحة مع الحاجة إلى فهم الخلفية الفعلية التي تتحكم بالسياسة الخارجية الأميركية مع ترامب أو بغيره. فالانكفاء من سورية، أو من أي منطقة في العالم، يحتاج إلى إدارة الانسحاب، مهما كان السبب، أو الهدف، نظراً إلى التداعيات التي لا تحصى، التي يخلفها. ومع أن كبار الساسة الديموقراطيين المعارضين له في الكونغرس، ومعهم كبار رموز الجمهوريين الموالين له، وكبار خبراء مراكز الأبحاث، اتفقوا كل على طريقته على إبداء القلق من تكرار أخطاء انسحابية سابقة، أبرزها أن يملأ الفراغ «داعش» وروسيا، وإيران، وتركيا، فإن الإعلان عن أن الانسحاب سيأخذ بين 60 و100 يوم لإنجازه، يعني أنها مهلة لتنظيم عملية إخلاء الميدان وإدارة ما بعدها. ليس جديداً أن روسيا المستفيد الأول. فسياسة واشنطن قامت على أربع نقاط حيال الدور الروسي، هي: لا مانع من بقاء قوات الكرملين في بلاد الشام، لا مانع من بقاء بشار الأسد في ظل العملية السياسية التي يتقرر مصيره من خلال المسار الذي ستسلكه على رغم أن الديبلوماسية الأميركية تبقي على العديد من الأوراق التي تقود إلى رحيله بحجة الفظاعات التي ارتكبها عندما يحين الوقت، الموافقة على خطة موسكو للإبقاء على الجيش السوري العامود الفري للدولة، وأخيراً عدم ممانعة تحكم موسكو بالثروة النفطية والغازية الدفينة في سورية. ومع أن موسكو لا ترى في هذه النقاط جديداً لأنها حاصلة عليها بحكم الأمر الواقع الذي خلقته بقوتها العسكرية، فإن الأبرز في تفاهم واشنطن معها هو الحرص المشترك على أمن إسرائيل، التي تستفيد من هامش الحرية الذي يمنحها إياه هذا التفاهم لتوجيه الضربات للوجود الإيراني. التنازل الفعلي الذي يريده الكرملين من ترامب هو في أوكرانيا وأوروبا وفي العقوبات.
الأسايبع والأشهر المقبلة ستوضح ماذا ستفعل القوات الفرنسية والبريطانية والنروجية الموجودة في كنف الوجود الأميركي في سورية، وهل سيسبق الانسحاب إنهاء «داعش» أم ستُترك شوكة للاستخدام، وهل ستنسق موسكو مع واشنطن انكفاءها، وهل ستسمح لإيران أم لتركيا بملء الفراغ. وهل سيتلقف الكرملين الأكراد وقوات سورية الديموقراطية في الشمال الشرقي لحمايتهم من تركيا، وهل المقابل الذي يربحه الأميركي عودة الوئام بينه وبين الحليف التركي التقليدي، مع التداعيات على سورية الرجل المريض، الذي تتهيأ إسرائيل لسلخ الجولان منه؟ إنه انسحاب يضاعف التخبط…
الحياة اللندنية