د. عماد بوظو
“أنا آسيا بيبي، محكومة بالإعدام لأنني كنت عطشى وشربت من كوب تستخدمه النساء المسلمات، فهن يعتبرن الماء الذي تشرب منه أي مسيحية نجسا. تعبت من أن أكون مواطنة درجة ثانية في عيون الباكستانيين، فقط لأنني مسيحية وهم مسلمون، كما سئمت من الدعوات المستمرة لي لاعتناق الإسلام”.
كان هذا مقطعا من كتيّب يوميات لآسيا بيبي.. وهي قد صرّحت لصحيفة في إسلام أباد: “أنا بريئة لم أكفر ولم أجدف ولم أرتكب أي جرم، أنا مسيحية أؤمن بربي وبحرية كل فرد بالإيمان بما يريد. أنا لم أسرق ولم أقتل ولكنني بنظر العدالة في بلدي ارتكبت ما هو أخطر، وهو التجديف”.
كانت السيدة آسيا بيبي في الثامنة والثلاثين من العمر وأمّا لخمسة أطفال عندما تم اعتقالها وتوجيه الاتهام لها بالإساءة للإسلام خلال مشادة مع سيدات مسلمات في شهر حزيران/يونيو 2009. حكمت عليها محكمة في لاهور في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 بالإعدام شنقا. استأنفت بيبي الحكم إلى المحكمة العليا في لاهور، وفي تشرين الأول/أكتوبر 2014 أيدت هذه المحكمة حكم الإعدام بحقها.
أخيرا، في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2018، وبعد أن أمضت أكثر من تسع سنوات في السجن، أصدرت المحكمة الباكستانية العليا حكما ببراءتها من كل التهم الموجهة لها، ما أدّى لاندلاع احتجاجات قامت بها مجموعات إسلامية، استمرت عدة أيام انتهت باتفاق بين الحكومة والمحتجين على منع آسيا بيبي من مغادرة باكستان. ووعدت الحكومة بأنها لن تمانع في الطعن القانوني من جانب المحتجين على قرار المحكمة العليا ببراءتها. وتضمن الاتفاق إطلاق سراح من جرى اعتقالهم من المحتجين، والتحقيق في أي عنف قد يكون مورس ضدهم.
لم تتوقف قصة آسيا بيبي عند ذلك، فزوجها ترك عمله بعد تهديدات بالقتل واضطر للتنقل من مكان لآخر حرصا على سلامة أطفاله. والدتها وشقيقتها غادرتا مكان سكنهما بعد أن أساء لهما سكان البلدة؛ حتى أن محاميها “سيف الملوك” فر من باكستان بعد الاحتجاجات الشعبية على تبرئة موكلته، وقال لرويترز إنه غادر البلد حفاظا على حياته من الغوغاء الغاضبين، “أنا بحاجة للبقاء على قيد الحياة لأنه يجب أن أواصل المعركة القانونية من أجل آسيا بيبي”.
الأهم من ذلك أنه في أوائل كانون الثاني/يناير 2011 تم اغتيال حاكم إقليم البنجاب سلمان تيسير نتيجة اعتراضه على قانون التجديف وتضامنه مع آسيا بيبي. وبعد بضعة أسابيع تم اغتيال وزير الأقليات شهباز بهاتي وهو الوزير المسيحي الوحيد في الحكومة نتيجة معارضته قانون التجديف.
وعندما مثل قاتل حاكم البنجاب في المحكمة استقبله حشد من المؤيدين، بينهم أعضاء في البرلمان، بالورود، تعبيرا عن تأييدهم له في قتله للحاكم، وقال والده إنه جاهز “للتضحية” ببقية أبنائه “في سبيل الإسلام”.
ومن نتائج هذه القضية ومضاعفاتها الإعلان عن تأسيس أحزاب إسلامية في باكستان لها برنامج سياسي وحيد وهو عدم المس بقانون التجديف والذي يعني مضمونه أن الكفر يقود إلى الإعدام.
تمكنت هذه الأحزاب من خنق العاصمة لعدة أيام ونشر الذعر بالبلاد، كما دعت علانية إلى إعدام القضاة الذين حكموا ببراءة آسيا، ووعدت هذه الأحزاب في حال فوزها بالانتخابات بإزالة هولندا من الخارطة بالأسلحة النووية الباكستانية بسبب التصريحات الاستفزازية لأحد وزرائها والرسوم الكاريكاتورية لإحدى صحفها!
وبدأت هذه الأحزاب بابتزاز الحكومة من خلال التهديد بالدعوة للتظاهرات وحتى التحريض على الاغتيالات، بحيث أصبحت تملي بعض آرائها على الحكومة.
وفي الانتخابات التشريعية الأخيرة في تموز/يوليو 2018 حصلت على 2.23 مليون صوت، ورغم أن هذا العدد غير كبير في باكستان التي اقترب عدد سكانها من 220 مليون، إلا أنه كاف لإثارة القلاقل وتهديد الاستقرار في هذا البلد الكبير.
لا يشكل المسيحيون سوى 1.6 في المئة من سكان باكستان، وهم أقلية فقيرة اقتصاديا وتتعرض للتمييز اجتماعيا، ويعمل أبناؤها في أدنى الوظائف، لذلك تبدو غير مفهومة مشاعر الانفعال والغضب على وجوه المتظاهرين الذين يحملون صورة آسيا بيبي المرأة الفقيرة الضعيفة مع إشارة إكس حمراء تغطي وجهها أو حبل مشنقة ملتف على رقبتها، مطالبين بإعدامها رغم أنها قضت ثماني سنوات في السجن نتيجة اتهامات مشكوك في صحتها؛ كيف يفهم هؤلاء الإسلام، وأين إسلام المستضعفين ونصرة المظلومين؟
كان من المستغرب في هذه القضية الإنسانية التي استغرقت سنوات طويلة أنه لم يصدر أي موقف أو تعليق حولها من أي مؤسسة دينية عربية، لتشرح للعالم ما هو موقف الإسلام من حكم الإعدام بحق هذه المرأة.
فالأزهر الذي يقدم نفسه ممثلا ومرجعا عالميا للإسلام المعتدل لم يدل بأي تصريح حول هذه القضية ولم يتطرق إلى ذكرها في أي مناسبة، رغم أنه تبنّى في مناسبات أخرى مواقف واضحة. ففي نهاية عام 2015 استقبل شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الناشطة الأيزيدية العراقية ناديا مراد التي اختطفها تنظيم “داعش” والتي حصلت فيما بعد على جائزة نوبل للسلام.
وأعرب الطيب عن تعاطف الأزهر مع مأساتها الإنسانية، قائلا إن هذه الأفعال التي تعرضت لها تخالف كل الشرائع السماوية والمواثيق الدولية والأعراف الإنسانية، التي تحرم الاعتداء على النفس البشرية أيا كان معتقدها أو لونها أو جنسها. وأكد أن الأزهر “يواصل الليل بالنهار من أجل نشر الفكر الوسطي للإسلام”.
ولذلك، فالعالم بحاجة لسماع رأي هذا الفكر الوسطي في قضية آسيا بيبي، وربما من الأنسب حتى لا تستمر حالة الغموض هذه توجيه سؤال مباشر للشيخ أحمد الطيب عن حقيقة موقفه من قضية هذه السيدة الباكستانية.
كذلك، على رابطة العالم الإسلامي، التي بدأت قبل ثلاث سنوات توجها إصلاحيا جديدا يهدف لمحاربة الفكر المتشدد، تحديد موقف تجاه هذه القضية، وهذا له أهمية خاصة لأن جمعيات ومؤسسات دينية خليجية كان لها الدور الرئيسي في نشر الفكر المتشدد في باكستان قبل بضعة عقود تحت مسمّى الصحوة الإسلامية، ما أدى إلى جعل المجتمع الباكستاني أقل تسامحا وأكثر تشددا وإلى انخفاض الأقليات الدينية فيه إلى 4 في المئة فقط من عدد السكان.
لذلك ربما من الأولى على من جلب التطرف إلى باكستان أن يحاول إصلاح خطئه والعمل على نشر الفكر المعتدل فيها، وكذلك من المفيد معرفة رأي الرئيس الحالي الإصلاحي للرابطة الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى من قضية آسيا بيبي، فقد سبق له أن تبنى بعض المواقف الجريئة في مواضيع أخرى، مع العلم أن الحكومة الباكستانية الحالية بحاجة إلى تغطية من أية جهة إسلامية حتى تستطيع المضي في قرارها بإطلاق سراح آسيا بيبي.
أما الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فلم يقدم نفسه بالأساس كمنظمة تمثل الإسلام المعتدل، وليس من المتوقع منه أن يأخذ موقفا سوى تأييد توجهات المتطرفين الباكستانيين، وهذا حال التنظيم العالمي للإخوان المسلمين القريب من هذا الاتحاد.
كذلك التزمت الصمت جميع الشخصيات الإسلامية المستقلة من المقلدين والمجددين أو من المعتدلين والمحافظين.
صدر موقف يتيم من ثلاثة رجال دين مسلمين في بريطانيا دعوا فيه الحكومة لإعطاء آسيا بيبي حق اللجوء السياسي.
كان من الممكن فهم هذا الموقف باعتباره صادقا وحقيقيا لو ترافق مع أي صوت من داخل الدول الإسلامية. أما في الوضع الحالي، فمن الطبيعي أن يتم التشكيك في دوافعه الحقيقية وترجيح أن سببه هو الخوف من أن يعامل المسلمون بالغرب على طريقة معاملة المسيحيين في باكستان، خصوصا أن بريطانيا شهدت تظاهرات وتوقيع عرائض للاحتجاج على حكم الإعدام بحق آسيا بيبي.
وعلق أسقف كانتربري السابق “إن على الحكومة الباكستانية أن تقرر إذا كانت تحترم حكم القانون أم لا، فقد تم تبرئة بيبي أخيرا من تهمة ملفقة، والتأخير في تأمين العدالة لها قد أضر باحترام باكستان في العالم”.
صمت هذه المراكز الإسلامية ليس سوى علامة الرضا على حكم الإعدام الذي صدر بحق آسيا بيبي، كما يوحي بتأييد هذه المراكز الإسلامية لأمثال هذه الأحكام، ويوضح ما الذي سينتظر هذه المنطقة إذا وصلت أمثال هذه القوى الإسلامية لمركز صنع القرار.
ويدفع هذا الصمت الواسع للتساؤل حول موقف عموم المسلمين من هذه القضية: هل يتعاطفون مع هذه المرأة أم يطالبون بإعدامها؛ وهل من الممكن إجراء استبيان لمعرفة حقيقة ذلك؟
وإذا كانت إجابة البعض: لماذا تتحدثون عن قضية امرأة واحدة وتتجاهلون كوارث كبرى تعرضت لها شعوب بأكملها فإن ذلك يعني ضمنيا أنهم من المؤيدين لإعدام هذه المرأة البائسة.
الحرة