تحقيقات

الأنقاض والدمار تغيّب زينة الميلاد عن بلدة عربين السورية لعام آخر

ـ عربين ـ ينفض نبيل العش الغبار عن بعض الكتب الدينية قبل أن يضعها جانباً ويتابع أعمال التنظيف في كنيسة بلدة عربين في الغوطة الشرقية قرب دمشق، التي خلت مجدداً من زينة عيد الميلاد، ولم يبق فيها سوى أثار حريق قديم.

تبدو الكنيسة سليمة من الخارج، بعكس الحال في داخلها، إذ لا تزال أثار حريق تعرضت له في العام 2013 بادية على جدرانها السوداء، فيما خلت قاعاتها الداخلية من الأيقونات والصلبان وحتى المقاعد. وغابت شجرة الميلاد مجدداً عن ساحتها بعدما تحولت إلى باحة لجمع الركام.

ومنذ سيطرة القوات الحكومية على عربين في أذار/مارس العام 2018، يتردد نبيل العش (55 عاماً)، المشرف على الكنيسة، على المكان بشكل شبه يومي محاولاً إصلاح ما أمكن.

ويقول العش لوكالة فرانس برس “ليس هناك عيد اليوم، منازل المسيحيين مدمرة وكنيستهم مدمرة، العيد صعب”. ويضيف “المسألة تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد والمال واليد العاملة”.

يتجوّل العش في أرجاء كنيسة القدّيس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، التي بنيت في العام 1873، وهي الكنيسة الوحيدة في عربين التي كان يعيش فيها أقلية مسيحية قبل وصول النزاع إليها في العام 2012.

ينظف بعض الكتب ثم يضعها فوق بعضها البعض إلى جانب النوافذ التي تطل على قاعة خالية، عُلقت فيها ثريا قديمة باتت سوداء اللون.

ينتقل العش إلى قاعة المذبح. ينظر حوله ويقول “لم تبقَ أي أيقونة داخل الكنيسة، جميعها سُرق أو حرق، وبعضها له قيمة تاريخية كبيرة ووجدنا بعض الصلبان مكسّرة”.

فرّ العش من عربين في العام 2012، وعاد إليها مسرعاً بعد سيطرة القوات الحكومية عليها “لمعاينة الكنيسة قبل المنزل”.

ويقول “كدتُ أنهارُ حين رأيت هذا المشهد قبل أشهر”. يتنهد قليلاً قبل أن يضيف “لقد تربيتُ في هذه الكنيسة، وأمضيت فيها كل أعياد الميلاد منذ ولادتي، كانت الفرحة تعمّ الكنيسة وتفيض على كل بلدة عربين لن تعود البهجة إلى عربين إلا بعودة السكان ورعايا الكنيسة”.

“مشتاقون”

سيطرت القوات الحكومية على عربين في إطار حملة عسكرية استعادت فيها في نيسان/أبريل كافة الغوطة الشرقية، التي شكلت منذ العام 2012 معقل الفصائل المعارضة الأبرز قرب دمشق وتعرضت طوال سنوات لقصف عنيف وحصار محكم.

وكان يعيش قبل اندلاع النزاع في العام 2011، نحو ثلاثة آلاف مسيحي في عربين، وفق ما يقول مختار البلدة خليل طعمة.

وبرغم استعادة السيطرة عليها، لا تزال البلدة خالية من غالبية سكانها والمسيحيين منهم خصوصاً، وينتشر فيها الدمار في كل مكان، من أبنية مدمرة وجبال ركام وأثار حرائق وهياكل سيارات وجامع لم يتبق منه سوى مئذنتيه.

ويقول العش “نحن خمسة مسيحيين فقط نتردّد على البلدة بشكل دوري ومنتظم، أما باقي العائلات فتأتي لتطمئنّ على منازلها بين الحين والآخر معظم المنازل مدمّرة وتحتاج للكثير من الترميم والإصلاح”.

على بعد عشرات الأمتار من الكنيسة، ينهمكُ جوزيف حكيمة (39 عاماً) بطلاء جدران أحد المنازل بعدما أتمّ عملية ترميمه بشكل كامل، ويستعدّ لتسليمه لصاحبه خلال أيام.

يعمل جوزيف في مجال تعهدات البناء، ولا يزال لديه ثلاثة منازل آخرى لترميمها بالإضافة إلى بيته.

يحرّك جوزيف الطلاء داخل وعاء، ويواصل إشرافه على العمّال المنهمكين بالصعود والنزول عن السلالم، وإحضار المزيد من المواد الأولية من أجل التمديدات الكهربائية.

ويقول لفرانس برس “نجهّز للعودة فور تأمين الخدمات والبُنى التحتية لكن المسألة تحتاج وقتاً مشتاقون لهذه العودة”. لكنه يتحسر على غياب مظاهر العيد التي اعتاد عليها في بلدته.

ويضيف “لم نر أي شجرة في عربين، من المؤسف أن يمرّ العيد على عربين ومنازلنا خالية أو ومدمرة  أتمنى في السنة المقبلة أن يعود كل شيء كما في السابق، شجر وزينة وعيد وصلوات وتراتيل”.

على بعد مئات الأمتار من عربين، يبدو المشهد مختلفاً تماماً، إذ تزينت العاصمة دمشق بأجمل ألوان العيد وانتشرت أشجار الميلاد في أحيائها ذات الغالبية المسيحية خصوصاً وعلى شرفات منازلها.

ووُضعت شجرة كبيرة طولها حوالى 30 متراً في وسط ساحة العباسيين، التي كانت تندرُ فيها الحركة، لمحاذاتها لخطوط التماس في حي جوبر في شرق العاصمة.

 “جذورنا هناك” 

في حي القصاع ذي الغالبية المسيحية، أطلت زينة الميلاد وأضواؤها من شرفات المنازل. إلا أن عائلة رياض راجحة، المتحدرة من بلدة عربين، امتنعت هذا العام أيضاً عن وضع شجرة الميلاد في منزل انتقلت إليه منذ 2012 اثر نزوحها من الغوطة الشرقية.

تنهمر الدموع على وجنتي راجحة (66 عاماً) قبل أن يتمالك نفسه قليلاً، ويقول “تركنا الشجرة هناك. هذا العام أيضاً، حُرمنا من تزيين شجرة الميلاد، ولن أفعل ذلك حتى أعود إلى عربين”.

ويتساءل “ما معنى أن نضع شجرة في بيت ليس بيتنا؟ (…) ناهيك على أنّ كلفة وضع شجرة الميلاد بات باهظة، وهناك نفقات ضرورية وملحّة أكثر من شجرة الميلاد”.

تعيش العائلة، المؤلفة من ثمانية اشخاص في منزل في حي القصاع بدلاً من بناء من أربع طوابق كان يتقاسمه راجحة مع أشقائه وأقربائه، لكنه تحول إلى ركام اليوم، على حد قوله.

يُقلّب راجحة صوراً قديمة لكنيسة عربين، تُظهرها مُضاءة ومليئة بالزوار، وفيها مقاعد خشبية أنيقة، وأيقونات كبيرة وثريات تدلّت من السقف، ويقول “جذورنا هناك، وكلّ ذكرياتنا هناك”.

يحلم راجحة باليوم الذي سيصطحب فيه أحفاده إلى بلدتهم. ويقول “ولدتُ في عربين، وعشتُ فيها، وأتمنى أن أموت وأدفن فيها”.  (أ ف ب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق