جويس كرم
في أقل من 24 ساعة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر تغريدة نيته الانسحاب من سوريا، وقفز منها إلى التفكير بانسحاب محتمل من أفغانستان، قبل أن يصطدم مع الكونغرس ويفشل في تمويل الحكومة الأميركية جزئيا، ومن ثم يتلقى رسالة مدوية تحتوي استقالة وزير دفاعه الجنرال جيمس ماتيس.
من يبحث عن منطق أو عقيدة استراتيجية تحرك قرارات ترامب، لن يجد ذلك في عشوائية القرارات الأخيرة. أوصل التخبط الرئاسي إلى هبوط الأسهم الأميركية إلى أدنى مستوياتها منذ 14 شهرا، وقد تستمر في التراجع على وقع شبح إغلاق الحكومة الفدرالية نهاية الأسبوع لفشل التمويل.
فعليا، لا الانسحاب الأميركي المزعوم من سوريا مرتبط بما يجري في قاعدة التنف أو دير الزور، ولا الحديث عن سحب 7000 جندي من أفغانستان مرتبط حصرا بما يجري في قندهار وكابول.
حسابات ترامب من سوريا إلى أفغانستان ترتبط وبشكل وثيق بالصورة الداخلية الأميركية والانتخابات الرئاسية، من خلال مخاطبة الرئيس لقاعدته الشعبية مع حلول العام 2019 والانطلاق الفعلي للترشيحات.
لم يقرر دونالد ترامب الانسحاب من سوريا بعد دراسة استراتيجية أو نزولا عند رغبة رجب طيب أردوغان أو فلاديمير بوتين أو بشار الأسد، علما أنه اتخذ القرار بعد اتصاله بالرئيس التركي الجمعة الفائت.
لا يعني قرار الانسحاب أنه سينفذ سريعا، وهو حتى الساعة في فلك التغريدات وهناك إمكانية للوصول، عبر مفاوضات الكونغرس، لخطة انسحاب مشروط ومجدول ترضي ماتيس وتضمن له خروجا مشرفا. فالغموض يسود وزارة الدفاع، ولا خطط واضحة حول الجدول الزمني أو مصير الغارات الجوية أو من يتولى مهام إعادة الإعمار والمشاريع الضخمة التي تعد لها الخارجية الأميركية في المناطق المحررة من “داعش” في سوريا.
جاء قرار الانسحاب من سوريا مباشرة من ترامب وضد رغبة مستشاريه وقياداته العسكرية؛ وهو في أسلوبه وتوقيته يفتتح حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2020، والتي سيخوضها ترامب بنفس الشعبوية والانعزالية في السياسة الخارجية التي أوصلته إلى الحكم في 2016.
فالرئيس الأميركي الحالي لم يكن يوما من النخبة السياسية الأميركية، لا بل هو يحتقر بعض مفكريها، وبنى صعوده السياسي على مواقف نجومية وشعبوية مثل معارضة حرب العراق، أو طلب وثيقة ولادة باراك أوباما، أو منع المسلمين، وبناء جدار مع المكسيك.
معضلة ترامب اليوم أن هذه السياسة الاستعراضية بدأت تصطدم بمصالح أميركية حيوية ومع الكونغرس. الحديث في واشنطن ليس حول الانسحاب بل حول انتظار مغادرة ترامب إلى فلوريدا لقضاء عطلة الميلاد والتوصل إلى ديباجة ترضي الرئيس من دون سحب القوات في سوريا في هذا الشكل العشوائي.
أما استقالة ماتيس، فهي تعني خسارة الرئيس آخر وأكثر جنرال مخضرم في إدارته بعد طرد مايكل فلين، وخروج هربرت ماكماستر، وفي نهاية العام مغادرة مدير الفريق الجنرال جون كيلي.
يريد ترامب استعادة نجوميته الانتخابية ومنافسة اليسار الديمقراطي الأميركي بشعارات إنهاء الحروب وسحب القوات، خصوصا أن رهانه على الاقتصاد والأسهم بات يترنح اليوم مع تراجع الأسهم ووصول الشلل الحزبي أقصى مستوياته بين الجمهوريين والديمقراطيين.
هذا الرهان على سياسات بناء الجدار مع المكسيك وتحدي العولمة والمزايدة في رفض التحالفات التي رسخت المنظومة الأميركية الحديثة ومن بينها “الناتو”، أدى إلى الفشل في انتخابات الكونغرس في تشرين الثاني/نوفمبر، وحيث خسر اليمين 40 مقعدا في مجلس النواب. وليس هناك أي مؤشر بأن هذه الاستراتيجية ستنجح اليوم رغم تصفيق أقصى اليمين وأقصى اليسار.
قرارات الـ24 ساعة الأخيرة لترامب تعبر عن حالة غير مسبوقة من الفوضى حول الرئيس الأميركي، وستنعكس سلبا على نفوذ واشنطن في المنطقة، سواء تم الانسحاب من سوريا أو لم يتم.
فالسياسات الدولية واستراتيجيات الحرب والسلم لا يتم بناؤها على أرقام الاستطلاعات الانتخابية. هذا ما اكتشفه باراك أوباما في العراق في 2011 وسيكتشفه ترامب في سوريا في 2018 في حال تخطت أفكار الانسحاب وشعاراته فلك تويتر.
الحرة