وليد شقير
يثبت دونالد ترامب مرة أخرى أن «اللاخطة» هي خطته في الشرق الأوسط، بلستثناء مشروعه المجهول المعلوم لصفقة القرن الهادفة إلى حفظ أمن إسرائيل وإلغاء القضية الفلسطينية.
أكثر من ذلك، تدفع التقلبات التي سبقت، وتلك التي طبعت خطوة الرئيس الأميركي في شأن الانسحاب من سورية موسكو الى الانتظار والترقب مخافة أن يعدل رأيه ويعود عن قراره بعد مدة، إذا وجد أنه يحتاج الى البقاء أو العودة…
ولسان حال الجانب الروسي أنه يصعب التكهن بقرارات حاكم البيت الأبيض، على رغم التكهنات بأن قراره الانسحاب من سورية قد يكون جاء بالتنسيق مع موسكو، وبهدف إعطاء دفع للتسوية السياسية التي ترعاها الأخيرة، طالما أن ترامب يسلم لها باليد الطولى في بلاد الشام.
وعلى رغم أن قراره لا يخرج عن الاستراتيجية الأميركية بالانكفاء من الشرق الأوسط، فإن «المجهول» الذي يطبع المقاربات إزاء خطوات ترامب التكتيكية، يتناول خطواته الآتية في هذا السياق من زاوية أن الانسحاب يحتاج إلى خطة تنظمه وتديره وترتب مراحله وتستشرف هوية الجهة التي ستملأ الفراغ الذي سينجم عنه.
الترقب الروسي دليل إلى أن عشوائية ترامب ما زالت غالبة على خطوته التكتيكية، وهذا يدفع لاستبعاد أن تكون تمت بالتنسيق مع موسكو. وهذا ما يعزز القلق من أن تكون إحدى نتائجها الفوضى في سورية. بدلا من خطة تنظيم الانسحاب هناك خطة لتنظيم الفوضى التي يتقنها العقل الأميركي. مع التسليم باليد الطولى لروسيا فلاديمير بوتين في سورية، لم يحن بعد وقت المقايضات الجدية طالما أن لا تغيير في سياسة حشر موسكو في شرق ووسط أوروبا، وفي العقوبات عليها بسبب الأزمة الأوكرانية المفتوحة على شتى الاحتمالات.
لم يكذب ترامب خبراً في الدلالة على عشوائيته ومفاجآته، حين أعلن ليلة عيد الميلاد خلال زيارته العراق، عن أن قواته فيه باقية ولن يسحبها. كان الانطباع السائد أن الانسحاب من سورية ضرورة لأن القوات الأميركية في شرق البلاد وفي قاعدة التنف الحدودية مع العراق، كانت باتت محاصرة بين القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها، المتمددة على الأرض السورية، وبين الوجود الإيراني وحلفائه في الحشد الشعبي من الجهة العراقية. اعتبر الخبراء أن جنود ترامب في الجانب السوري يمكن أن يصبحوا رهائن لإيران اذا تطورت المواجهة الأميركية الإيرانية إلى درجة الحرب المباشرة، في ظل تصاعد ضغط إدارة ترامب على طهران. والانسحاب من سورية قد يكون وسيلة لتجنب احتمال المحاصرة الإيرانية الذي قد يضطر واشنطن الى التدخل بالطيران وبمضاعفة قواتها البرية في الميدان السوري. وهذا ما لا يريده ترامب الذي حوّل الانسحاب الى نقطة قوة مزعومة حين قال في تبرير بقاء قواته في العراق انه قد يستخدمها قاعدة لعمليات في سورية إذا احتاج ذلك.
قابل الأيام قد يشهد على مدى فعالية هذا التكتيك في عشوائية ترامب. فالعائق أمامه أن الوجود الإيراني في العراق يتمتع بحماية شعبية وسياسية وشرعية أكثر متانة منه في سورية. بل أن طهران نفسها كانت تعتد بتفوقها في بلاد الرافدين، من أجل التهديد باستهداف الوجود العسكري الأميركي هناك انتقاما للضربات التي تتعرض لها في سورية ولمحاولة محاصرة نفوذها في الميادين الأخرى. النتيجة الحتمية للبقاء في العراق هي أن ترامب ينسحب من مواجهة محتملة مع إيران في سورية إلى مواجهة أكثر احتمالا وأكثر مباشرة، وشراسة ربما، معها في العراق.
هل يمكن توقع وظيفة منطقية للانسحاب الأميركي حسب «لاخطة» ترامب؟
من الواضح أنه ترك سورية لوكيلين: الشمال الشرقي لتركيا التي تتهيأ لإنهاء السيطرة الكردية على بضع مناطق شرق الفرات. ولإسرائيل في الجنوب الغربي لسورية، بدليل الغارات التي شنها طيرانها ليل الثلثاء على ريف دمشق مستهدفا مناطق التواجد المشترك لجيش النظام مع الميليشيات الإيرانية، محاذية للبنان.
لا يمكن فهم الانسحاب الأميركي من سورية إلا بالنتائج التي يخلفها. إنه إحدى مراحل المواجهة مع إيران، ومن تقاسم النفوذ الجغرافي.
هو مطمئن إلى التفهم الروسي لحاجات إسرائيل في منع التمركز الإيراني في سورية، وفي استهداف القواعد الإيرانية وخطوط إمداد «حزب الله» بالصواريخ الدقيقة. فموسكو وتل أبيب تفاهمتا على توزع الفضاء السوري بين الطيران الحربي لكلا البلدين، إلى درجة أن المسؤولين الروس حوّلوا مسار الطيران المدني الآتي من بلدهم إلى بيروت ودمشق حتى لا يصادف الطيران الحربي الإسرائيلي أو الصواريخ السورية التي تستهدفه. كما أن الانكفاء الأميركي يفقد حجة موسكو وجوب الانسحاب الأميركي قبل الإيراني، ويتركها تتناحر مع طهران على دمشق وما تبقى…
الحياة اللندنية