د. عماد بوظو
طوال الحروب العثمانية ـ الصفوية التي استمرت من القرن السادس عشر للتاسع عشر، كان الأتراك والإيرانيون يتناوبون بالتودد للأكراد في محاولة لاستمالتهم إلى جانبهم للمشاركة في الحرب ضد الطرف الآخر، ثم يتركونهم لمصيرهم عند انتهاء المعارك. في الوقت نفسه كانت بعض العشائر الكردية تحاول التمرد على السلطات القائمة بهدف تحقيق بعض المكاسب، فإذا توسع التمرد وحقق بعض الانتصارات قبلت تلك العشائر بثمن زهيد لانتصارها على شكل امتيازات مؤقتة تنالها أو مناصب يتولاها قادتها، كان السبب الرئيسي للاكتفاء بهذا الثمن المتواضع عدم وجود تعاون أو تنسيق بين القيادات الكردية، لأن كل زعيم كان يقاتل لمصلحته الشخصية أو في أحسن الأحوال لمصلحة عشيرته.
تكرر الأمر نفسه خلال الحروب الروسية ـ العثمانية حيث استطاع الروس أحيانا استمالة بعض العشائر الكردية عبر تقديم وعود لها، مثل انتفاضة أولاد بدرخان على العثمانيين ولكن بعد انخفاض حدة المعارك على الجبهة الروسية تفرّغ العثمانيون لمواجهة الثورة وهزموها بمساعدة يزدان شير ابن أخ بدرخان الذي تعاون مع الأتراك ضد أبناء عمه، وكانت قصة جمهورية مهاباد التي استمرت أحد عشر شهرا من عام 1946 مشابهة إذ تم الإعلان عنها مع دخول القوات السوفياتية وانتهت وأعدم بعض قادتها مع انسحاب تلك القوات.
وكذلك الحرب الكردية ـ العراقية 1974 ـ 1975، التي تم توجيه ضربة قاصمة للأكراد فيها بمجرد اتفاق صدام حسين وشاه إيران في الجزائر في السادس من آذار/مارس 1975، عندما تنازل العراق عن جزء من شط العرب وتم ترسيم الحدود بين البلدين حسب المطالب الإيرانية مقابل وقف الدعم الإيراني للحركة الكردية، ليعلن الملا مصطفى البرزاني، في الشهر نفسه وبعد بضعة أيام من توقيع الاتفاق، توقف المقاومة الكردية ولجوء قادتها إلى إيران.
ومن الأمثلة الأحدث نزوح مئات آلاف الأكراد عبر الجبال باتجاه الحدود التركية عام 1991 بعد انتهاء عملية تحرير الكويت واكتشاف القادة الأميركيين أن القضاء على النظام العراقي في تلك المرحلة لا يتناسب مع المصلحة الأميركية، فترك الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب لمصيرهم.
وهناك كذلك علاقة حزب العمال الكردستاني مع النظام السوري، فقد عقد الحزب مؤتمره الأول في سوريا بين 15 و25 تموز/يوليو 1981، ومؤتمره الثاني أيضا في سوريا 1984، كما كانت دمشق هي مكان إقامة قيادة الحزب، وتواجدت وبعض معسكراته في البقاع اللبناني الخاضع للسيطرة السورية؛ وكانت عمليات تجنيد كوادره تجري في المناطق ذات التواجد الكردي في سوريا. ولكن في عام 1998 ونتيجة الضغوط التركية أخرجت سوريا الأمين العام للحزب عبد الله أوجلان من أراضيها ما أدى لوقوعه بعد ساعات في أيدي الأتراك في مثال آخر عن ما الذي يحدث عندما تعتمد الحركة الكردية بشكل كبير على طرف خارجي.
واليوم عندما أعلنت الولايات المتحدة نيتها الانسحاب من سوريا، يجد حزب الاتحاد الديمقراطي نفسه في موقف مماثل لما مر به كل أسلافه من الحركات الكردية خلال القرون الماضية.استخدمت كثير من الأطراف الإقليمية والدولية “الورقة” الكردية لتحقيق بعض المكاسب على حساب الشعب الكردي، مثل الإيرانيين والأتراك والنظام السوري والنظام العراقي السابق، والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وغيرها، ولكن ذلك لم يكن ليحدث أو يكتب له النجاح لولا الصراعات الكردية الداخلية؛ فقد تحالف حزب الاتحاد الوطني الكردستاني مع إيران التي ساعدته في توسيع سيطرته داخل كردستان العراق على حساب الحزب الديمقراطي الكردستاني، وما زال هذا التحالف مستمرا حتى اليوم، من الممكن ملاحظته في العلاقة المميزة التي تجمع هذا الحزب مع إيران وميليشياتها في العراق.
تحالف الحزب الديمقراطي الكردستاني مع النظام العراقي في إحدى مراحل الكارثة الكردية الكبرى وهي الحرب الأهلية بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني والتي استمرت لثلاث سنوات وأدت لسقوط خمسة آلاف قتيل بين عسكري ومدني وتهجير أكثر من مئة ألف كردي من ديارهم ولم تنته هذه الحرب إلا عن طريق الضغط الأميركي الذي أجبر الطرفين على توقيع “اتفاق سلام” في واشنطن في أيلول/سبتمبر 1998، ونتيجة عمق الأزمة بين الحزبين لم تفلح حتى الآن كل محاولات توحيد قوات البيشمركة رغم المخاطر العديدة التي تعرض لها الوجود الكردي خلال السنوات الماضية.
فارتباط القوات العسكرية بأحزاب بدلا من مؤسسات الدولة يجعلها أقرب للميليشيات، حتى عندما دعت رئاسة إقليم كردستان لاستفتاء حق تقرير المصير للشعب الكردي عام 2017 كانت نسبة المشاركة في المناطق الخاضعة لسيطرة الاتحاد الوطني منخفضة لحدود 55 في المئة مقابل 90 في المئة في مناطق أخرى بما يوحي بأن بعض الموالين لحزب الاتحاد الوطني لا يريدون حق تقرير المصير ولا الاستقلال إذا كان سيأتي عن طريق الحزب الديمقراطي أو الرئيس البرزاني، مما يدل على أولوية الاعتبارات الحزبية والعشائرية على القضية الوطنية، وظهر ذلك في أوضح صوره في دخول القوات العراقية والحشد الشعبي إلى كركوك دون مقاومة وانسحاب البيشمركة المفاجئ منها بعد شهر واحد من هذا الاستفتاء نتيجة الخلافات الكردية الداخلية.
طوال السنوات الماضية كان لحزب الاتحاد الديموقراطي، الوثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، عدوّان رئيسيان هما النظام التركي ممثلا بالرئيس أردوغان والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة البرزاني، وفي حين أن الخلاف مع تركيا يمكن أن يكون قابلا للحل إذا تم الاتفاق على إطار تسوية تتضمن الإفراج عن عبد الله أوجلان المعتقل هناك، يبدو الخلاف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني غير قابل للحل.
برز ذلك خلال السنوات الماضية في عدة اشتباكات مسلحة بين التنظيمين في العراق وإيران وحملات اعتقالات للموالين لأحد الحزبين عند الطرف الآخر، ونتيجة لذلك فاليوم ومع قرب الانسحاب الأميركي من شرقي الفرات يبدو خيار عودة الاتحاد الديمقراطي لحضن النظام السوري رغم صعوبة تسويق ذلك أخلاقيا وإنسانيا أكثر احتمالا من محاولة ترميم العلاقة مع أربيل أو التوافق مع المزاج الشعبي العربي والكردي في مناطق شرق الفرات المعارض للنظام السوري، ومما يرجّح هذا الاحتمال أن الحزب وفي أوج التعاطف والدعم العالمي له عندما كان رأس الحربة في محاربة “داعش” لم يحاول استثمار ذلك لخدمة قضية الشعب الكردي، أو المطالبة بسوريا ديمقراطية بدون حكم عائلة الأسد بل اقتصرت جهوده على محاولة استخدام هذه الفرصة في الترويج لزعيمه أوجلان وترهيب واعتقال كل من اختلف معه من العرب والأكراد.
الحركة السياسية الكردية لم تستطع إلى اليوم الارتقاء إلى مستوى القضية التي تدافع عنها وكان العدو الرئيسي للكردي دوما هو الكردي الآخر الذي يختلف معه بالتصور والتوجه والولاء والانتماء، وكان بوسع أي طرف إقليمي أو دولي استغلال هذه الخلافات لتحقيق مصالحه. وطالما أن الأحزاب الرئيسية في كردستان مرتبطة بعشائر وأفراد أكثر من ارتباطها بقضية وطنية، فالتاريخ الكردي سيبقى يعيد نفسه.
الحرة