منصور الحاج
شاركت يوم الاثنين الماضي في الوقفة التضامنية أمام مبنى السفارة السودانية في واشنطن، التي دعا إليها أبناء الجالية السودانية في الولايات المتحدة لدعم المسيرات الجماهيرية المطالبة بإسقاط نظام الرئيس عمر البشير وللتنديد بجرائم الأجهزة الأمنية ضد المدنيين العزل.
كانت وقفة ناجحة بكل المقاييس حضرها مئات من سكان منطقة واشنطن الكبرى والولايات المجاورة، أظهروا فيها تلاحما منقطع النظير وهتفوا بحماس كبير ضد حزب المؤتمر الوطني الذي يحكم البلاد منذ أكثر من 30 عاما، مناشدين الجماهير الثائرة بالصمود ومواصلة المسيرات في جميع المدن حتى يسقط النظام.
كان مشهدا رهيبا لم أر مثيلا له طوال فترة إقامتي في الولايات المتحدة الممتدة لأكثر من عشر سنوات، فقد سجل الشباب من مختلف شرائح المجتمع حضورا لافتا، وتولت الأمهات والشابات مسؤولية ترديد الهتافات من قبيل “الشعب يريد إسقاط النظام” و”طلقات الرصاص لا تقتل وإنما الصمت هو ما يقتل” و”حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب” و”نحن مرقنا مرقنا مرقنا ضد الناس السرقو عرقنا”.
إن تلك الهتافات وغيرها التي يرددها المتظاهرون في مدن وأحياء السودان المختلفة تكشف بوضوح مدى الوعي الذي وصلت إليه الجماهير وإدراكها لحجم التحديات التي ستواجهها في سبيل تغيير النظام الجاثم على صدرها منذ ثلاثة عقود والذي جلب الويلات للبلاد بسبب السياسات العشوائية التي شردت المواطنين في المنافي وعبثت بمقدرات الوطن وساهمت في تخلفه على الرغم من الثروات الطبيعية والبشرية الهائلة التي تتمتع بها البلاد.
لقد آن الأوان لأن يتحد أبناء السودان من أجل التخلص من هذا النظام الذي فشل فشلا ذريعا في إدارة البلاد. وحان الوقت لكي يعمل السودانيون بجد من أجل تأسيس نظام ديمقراطي يحترم التنوع العرقي والثقافي ويعزز الحريات ويستفيد من خبرات الكوادر المؤهلة في العديد من المجالات، التي وجدت في دول المهجر الاحترام والتقدير اللازمين من أجل التألق والإبداع.
إن السودان كبلد، والسودانيون كشعب، يحتلون مكانة خاصة في قلبي؛ فقد عشت هناك لسنوات وتنقلت بين مدنه المختلفة وعاشرت أهله في أمدرمان والخرطوم وبحري وبورتسودان وفي السعودية وتشاد ومصر وهنا في الولايات المتحدة. وللأمانة، أقول بأنهم شعب كريم مضياف يحب الحياة ويعشق تراب وطنه ويستحق أبناؤه العيش في وطن يكفل لهم الحرية والعدل والمساواة والحياة الكريمة.
لقد تعلقت بالسودان، حتى قبل أن أراه من خلال القصص والحكايات التي كنت أسمعها من السودانيين المغتربين، عن حبهم للحفلات الغنائية والرحلات الترفيهية واعتزازهم بالمؤسسات التعليمية كجامعة الخرطوم ومعاهد كامبوني، وتغنيهم بقوة الجنيه السوداني في الماضي ومكانة نهر النيل في نفوسهم والأحداث التاريخية الراسخة في الذاكرة الجمعية لهم كثورة أيار/مايو (1969) وقوانين سبتمبر وتجربة الأحزاب والانتفاضات والانقلابات العسكرية.
كما حفظت الأغاني السودانية، التي كانت والدتي تستمع إليها باستمرار، لكبار الفنانين والفنانات كمحمد وردي ومحمد الأمين وسيد خليفة وحنان بلوبلو والبلابل وحمد الريح وأحمد المصطفى وغيرهم.
كانت أول زيارة لي إلى الخرطوم في عام 1998 للالتحاق بجامعة إفريقيا العالمية؛ ونسبة لكونها المرة الأولى التي أسافر فيها إلى السودان، حرصت والدتي أن أكون برفقة أحد أبناء البلد. حين ذهبنا الى المطار في يوم السفر، اقتربت والدتي من أول مسافر إلى السودان وقعت عليه عيناها وطلبت منه أن يوصلني إلى الجامعة، فوافق؛ لكنه بدلا من أن يأخذني إلى مقر الجامعة أصر أن أرافقه إلى منزله حيث استضافني عنده لأيام ولم يتركني حتى أنهيت إجراءات التسجيل والحصول على سكن في داخلية الطلاب.
لا أعرف شعبا على وجه الأرض بهذه البساطة والكرم وطيبة القلب مع الغريب قبل القريب سوى الشعب السوداني.
في السودان وما أدراك ما السودان، عشت سنوات رائعة مع الأهل والأقارب والأصدقاء والزملاء، حيث كنت أزور أهلي في مدينة أمدرمان نهاية كل أسبوع وكنت أتعجب من إصرار من أزورهم على المبيت عندهم وهو أمر احتجت بعض الوقت للتأقلم معه.
ومن أطرف القصص التي سمعتها عن هذه العادة قصة أبطالها مجموعة من الطلاب التشاديين كانوا في زيارة إلى منزل زميل لهم، فلما جن الليل وهموا بالعودة أصر الزميل وأهله عليهم بالمبيت ففعلوا على مضض، وعندما عادوا في صبيحة اليوم التالي إلى سكن الطلاب أخبروا بني جلدتهم بالأمر، وقالوا إن زميلهم أهداهم ثيابا لكن أتضح أنها لم تكن هدايا وإنما “جلاليب” للنوم جرت العادة عند السودانيين تقديمها للضيوف ليهنؤوا بنوم مريح.
لطالما افتخرت بانتماءاتي المتعددة إلى كل من السعودية وتشاد والسودان ولطالما شعرت بالإحراج حين يطلب مني اختيار أقربها إلى قلبي، ولكني اليوم سأعترف وأقول بأن السودان يحتل مكانة كبيرة في داخلي وأكن لشعبه كل الحب والاحترام والتقدير.
في عام 2012، كتبت مقالا بعنوان “يا أحرار العالم ادعموا انتفاضة السودانيين لإسقاط نظام البشير قبل فوات الأوان” حين انتفض السودانيون وخرجوا في مظاهرات حاشدة ضد البشير وأعوانه الذين نجحوا في قمع الثورة والبقاء في السلطة حتى اليوم.
واليوم أقول، يا أهل السودان واصلوا صمودكم في وجه قوى الظلم والفساد ولا تسمحوا لأي كائن بسرقة تضحيات أبنائكم الذين قدموا أرواحهم وأريقت دماؤهم طلبا للحرية والسلام والعدالة.. نعم إن الثورة خياركم الوحيد لكم فواصلوا ثورتكم المباركة.