السلايدر الرئيسيتحقيقات
عامُ 2018 في الروزنامة الروسيّة.. وملامحُ رسوخ “العقيدة البوتينيّة” إلى ما بعدَ عامِ 2024
جمال دملج
– بيروت – من جمال دملج – ربّما ليس من باب المبالغة القول إنّ أيَّ حديثٍ عن رمزيّة منتصف ليلة الحادي والثلاثين من شهر كانون الأوّل (ديسمبر) من كلِّ سنةٍ في ذاكرة الأمم والشعوب على طول خارطة العالم وعرضها لا يمكن أن يُقارَن من حيث الأهمّيّة برمزيّة الحديث عمّا تعنيه هذه المناسَبة في الذاكرة الروسيّة منذ لحظة الانعطاف التاريخيّة ما بين القرن العشرين وما بين القرن الحادي والعشرين ولغاية يومنا الراهن، أيْ على مدى ثمانية عشر عامًا من الزمان، ولا سيّما أنّ الخطوة الجريئة التي أقدَم عليها الرئيس (الراحل) بوريس يلتسين في مثل هذا اليوم من عام 1999 إثر الإعلان عن استقالته وتسليم مقاليد الحُكم في قصر الكرملين لفلاديمير بوتين بصفةِ رئيسٍ بالإنابة، تنفيذًا للوعد الذي كان قد قطعه على نفسه قبل ذلك التاريخ بقرابة الثلاثةِ أشهرٍ بأن يكون هذا الرجل القادم من مدرسة الـ “كي جي بي” الاستخباراتيّة السوفييتيّة العريقة “خليفته المختار” للولوج بروسيا إلى الألفيّة الثالثة، سرعان ما شرَّعت الأبواب في هذه البلاد المترامية الأطراف أمام بدء مرحلة استعادة هيبتها وثقلها على الصعيدين الداخليّ والخارجيّ في أعقاب ما آلَت إليه الأمور من خيباتٍ متتاليةٍ خلال السنوات التسع العجاف التي تلَت تفكُّك الاتّحاد السوفييتيّ، الأمر الذي قُدِّر لي أن أكون شاهدَ عيانٍ على كافّة تجلّيات بشائره وأبعاده ووهجه وعنفوانه، سواءٌ عن قُربٍ أم عن بُعدٍ، وهي التجلّيات التي قُدِّر لي لاحقًا أن أدوِّنها بالتفصيل في كتابي الصادر عام 2015 تحت عنوان: “البوتينيّة – أسس العقيدة السياسيّة الروسيّة الحديثة”.
التريليونات الضائعة
لا شكّ في أنّ تردّي الأوضاع الاقتصاديّة كان من أبرز التحدّيات التي واجهها الرئيس بوتين في بداية مسيرته، نظرًا لأنّ البصمات السلبيّة التي خلّفها نهج الرأسماليّة البيروقراطيّة، أو الرأسماليّة الأوليغارشيّة مثلما يسمّى في روسيا، كانت لا تزال واضحةً على جبين الناس، ولا سيّما أنّ أصحاب السطوة الماليّة الذين ترعرعوا في ظلّ حركة الرئيس ميخائيل غورباتشوف الإصلاحيّة (البيروسترويكا)، ومن ثمّ في ظلّ إدارة الرئيس يلتسين المترهِّلة، كانوا يمتحون موارد الدولة الطبيعيّة ويحوِّلون الأموال المكتسَبة إلى مناطق الأوفشور الأجنبيّة، من دون القيام بإنشاءِ أقسامٍ إنتاجيّةٍ جديدةٍ، الأمر الذي أدّى إلى اتّساع الهوّة ما بين فئةٍ قليلةٍ من السكّان الذين اغتنوا من مثل هذه الأعمال من جهةٍ، وما بين الملايين من الناس البسطاء الذين ازدادوا فقرًا من جهةٍ أخرى، وبالتالي إلى التسبُّب بمشاكلَ اجتماعيّةٍ بالغةِ الصعوبة والتعقيد، ناهيك عن أنّ قيمة الخسائر التي تكبّدتها الدولة جرّاء نظام الخصخصة وبيع الممتلكات العامّة بأسعارٍ بخسةٍ كانت قد وصلَت حتّى عام 1999 إلى ما يُعادل ثلاثةَ تريليوناتِ دولارٍ أميركيٍّ دخَل معظمها في جيوب الأوليغارشيّين ممّن يعتنقون الديانة اليهوديّة مثل بوريس بيريزوفسكي وميخائيل خودروكوفسكي وفلاديمير جوسينسكي وألكسندر سمولينسكي وميخائيل فريدمان وفاليري مالكين.
الحركات الانفصاليّة
في تلك الظروف الصعبة إذن، بدأ الرئيس بوتين سنوات حكمه متّكئًا على رفاق الماضي من أمثال سيرغي إيفانوف ونيكولاي باتروشيف وإيغور سيتشين وغيرهم، وكذلك على ما اختزنه من ملفّاتٍ ومعلوماتٍ إبان فترة عمله كرئيسٍ لجهاز الأمن والمخابرات، إضافةً إلى الخبرات التي تراكمت لديه طيلة عمله خلال الحقبة السوفييتيّة كممثّلٍ لواحدٍ من أعتى وأقوى الأجهزة الاستخباراتيّة في العالم، أي جهاز الـ “كي جي بي”، ولا سيّما أنّ اعتماده على “رفاق السلاح” كان بمثابةِ ضرورةٍ ملحّةٍ اقتضتها الحاجة إلى مواجهة متطلَّبات تلك الظروف، ناهيك عن الحاجة إلى لملمة أطراف الثوب الروسيّ وإنقاذ البلاد من مصيرٍ مشابهٍ لما واجهه الاتّحاد السوفييتيّ السابق نتيجةً لاشتعال الكثير من الحركات الانفصاليّة في الشيشان وشمال القوقاز في إطار السعي إلى إقامة ما اتُّفق على تسميته بـ “كونفيديراليّة الشعوب الإسلاميّة”هناك، الأمر الذي يفسِّر سبب تركيز القيادة الروسيّة الجديدة (وقتذاك) على التعامُل مع كافّة مجريات الحرب الشيشانيّة على أساس مبدأ “كسر العظم”، بما يضمن لها في نهاية المطاف حسم الوضع العسكريّ على جبهات القتال لصالحها، وهي الحرب التي قُدِّر لي أن أشارك في تغطية وقائعها أثناء اشتداد ضراوتها عام 2000، وأن أدخل إلى قلب العاصمة المدمَّرة غروزني لأرى بالعين المجرَّدة أنقاضها وأطلالها، قبل أن تضع هذه الحرب أوزارها إيذانًا ببدء عمليّة إعادة الإعمار، لتُصبح غروزني في الوقت الراهن إحدى أهمّ العواصم الإسلاميّة الحضاريّة في العالم، خلافًا لما آلَت إليه الأمور في عواصمَ أخرى عصفَت بها رياح التغيير الأميركيّة مثل مقديشو وكابُل وبغداد وطرابلس الغرب على سبيل المثال وليس الحصر.
عالم متعدِّد الأقطاب
وإذا كان اثنان لا يختلفان على أنّ النتائج الميدانيّة التي تمخَّضت عن هذه الحرب كانت من بين العوامل الرئيسيّة الهامّة التي أدَّت إلى رفع شعبيّة الرئيس بوتين في الشارع الروسيّ، فإنّ ما أدّى إلى رفع معدَّل هذه الشعبيّة باضطرادٍ خلال السنواتِ الثماني عشرةَ الماضية، سنةً بعد سنةٍ، يعود إلى ما تتمايَز به شخصيّته من براغماتيّةٍ لافتةٍ في مجال إدارة الأزمات والملفّات الشائكة، بدءًا من نجاحه في احتواء تداعيات الثورات الملوَّنة في أوكرانيا وجورجيا وقرغيزيا وتمكُّنه من التصدّي لمحاولات تمدُّد حلف شماليّ الأطلسيّ شرقًا أثناء الحرب الجورجيّة على مدى سنوات العقد الأوّل من الألفيّة الثالثة، مرورًا بأسلوب تعاطيه المفعَم بالمسؤوليّة في غمرة إرهاصات “ربيع العرب” عام 2011 وارتدادات الأزمة الأوكرانيّة عام 2013 وإنجازات انخراطه العسكريّ المباشِر في الحرب على الإرهاب في سوريا عام 2015، وانتهاءً باعادة انتخابه بأغلبيّةٍ ساحقةٍ في شهر آذار (مارس) الماضي لولايةٍ رئاسيّةٍ رابعةٍ تستمرّ لغاية عام 2024، وهي البراغماتيّة كان قد عبَّر عنها في فحوى أوّل تصريحٍ أدلى به لدى فوزه في انتخابات عام 2000، وتحديدًا بعد مرور ثلاثةِ أشهرٍ فقط على تسلُّمه الحكم بصفةِ رئيسٍ بالإنابة من الراحل بوريس يلتسين، وخصوصًا عندما قال ما حرفيّته: “إنّ روسيا الاتّحاديّة دولة ما زالت تمتلك الكثير من عناصِر القوّة، وهي ترغب في استخدامها مع الآخَرين وليس ضدَّهم من أجل بناءِ عالمٍ متعدِّد الأقطاب”… وحسبي أنّ روسيا التي لم تُهادِن يومًا على التمسُّك بثوابت هذا التصريح باتت اليوم أقوى بكثيرٍ من ذي قبل… وحسبي أنّ الروس ما زالوا يتذكَّرون مثلي وقائع تلك المرحلة البعيدة عامًا بعد عامٍ، ولا سيّما أنّ لفضاء الذاكرة على الدوام سحرُ نجومٍ ونيازكَ تتألَّق بنورها سماوات الأيّام وما تحت أفلاكها، فيُصبح وحْي ما يمكن أن يُستحضَر من عَبَق الماضي سِفْرَ تكوين الحاضر والمستقبل، ولغةَ تَخاطبٍ بين ذهولِ المحتمَل الصعب وبهجةِ الممكن المتوهِّج، بحيث يتحرَّر فيها ظرف الزمان من قيود الأزمنة القاسية، ويُسقِط فيها ظرف المكان عن وجهه كلَّ أقنعة الأماكن المستحيلة، لتبقى صفحات روزنامة العمر في نهاية المطاف، على غرار الصفحة الروسيّة، مشرَّعةً أمام أحلى الاحتمالات… وكلّ عامٍ وأنتم بألفِ خير.