بابكر فيصل
يداوم شيوخ الوهابية على وصف أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بـ”خوارج العصر”، وينفون أن يكون للفكر السلفي/ الوهابية أو ما يعرف بتيار “أهل السنة والجماعة” أية علاقة بالأفكار والتوجهات التي يتبناها التنظيم المتطرف الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وتوَّج انتشاره الواسع بإعلان الخلافة الإسلامية قبل أن يتقلص نفوذه بسبب الضربات الكبيرة التي تلقاها مؤخرا في أماكن سيطرته في سوريا والعراق.
معلوم أن الخوارج يمثلون الفرقة التي ساندت الخليفة الرابع على بن أبي طالب في صراعه مع معاوية بن أبي سفيان ولكنهم خرجوا عليه بعد معركة صفين بسبب قبوله بالتحكيم ورفعوا شعار “لا حكم إلا لله” ومن ثم قام أحدهم، عبد الرحمن بن ملجم، باغتيال علي. وقد اشتهروا بتعصبهم الشديد لأفكارهم وثوراتهم المستمرة على حكام بني أمية.
إن الباحث المدقق في المنطلقات الفكرية والعقائد التي قام عليها تنظيم “داعش” سيجد فوارقا جوهرية بينها وبين عقائد الخوارج، وهو أيضا سيدرك أن ما يجمع “داعش” مع الفكر السلفي أكبر بكثير مما يجمعه بفكر الخوارج وهو الأمر الذي ينفي ادعاءات شيوخ السلفيين بأن “داعش” هم خوارج العصر.
تنبني أصول عقيدة الخوارج على التبرؤ من علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان واعتبارهم كفارا، وهم ينفون أن تكون الخلافة محصورة في بني هاشم فقط كما يرى الشيعة، ولا في قريش فقط كما يرى أهل السنة، بل هي حق لعموم المسلمين.
في إعلانه الذي تضمن تنصيب أبوبكر البغدادي خليفة للمسلمين، قال تنظيم الدولة “داعش” إن شروط الخلافة قد تحققت فيه، وذكروا من بين تلك الشروط انتسابه لقريش، وهذا الشرط هو من الشروط التي تطالب بها عقائد السلفيين وليس الخوارج، فالأخيرين لا يشترطون انتماء الخليفة لقريش بل يقولون إن من حق أي مسلم أن يصبح خليفة إن كان أهلا لها من ناحية العلم والاستقامة الشخصية.
وبينما يقول الخوارج بكفر علي ومعاوية، فإن “داعش” يتفق مع السلفيين في توصيفها لهم ويقول إنهم صحابة رسول الله ولا يكفرهم. وفي الوقت الذي لا تؤمن فيه معظم فرق الخوارج بما يسميه السلفيون “صحيح السنة” فإن “داعش” يؤمن بالأحاديث النبوية وفي مقدمتها الواردة في صحيحي مسلم والبخاري.
يؤمن الوهابيون بالنبوءة التي وردت في صحيح مسلم عن “الملحمة الكبرى” وهي النبوءة التي استخدمها “داعش” كثيرا في استقطاب الآلاف من الشباب المسلم للانضمام لصفوفه من أجل خوض معركة آخر الزمان مع الكفار.
روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة أن الرسول الكريم قال: “لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبقوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبدا، فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فيتنزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكنه يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته”.
دابق هو اسم بلدة في سوريا بينما الأعماق منطقة تابعة لأنطاكية بتركيا، وقد اتخذ “داعش” من دابق اسما للمجلة الرسمية الناطقة بلسان التنظيم، وظلت تُمني المنضمين للوائها بخوض معركة آخر الزمان التي تنبأ بها حديث مسلم، وهي المعركة التي ستنتهي بظهور الدجال ونزول المسيح وهزيمة الكفار إلى الأبد.
ومن بين الأمور التي تبين ممارسات “داعش” المؤيدة للسلفيين والمخالفة للخوارج فيما يتعلق بالسنة، هو الموقف من قضية رجم الزاني المحصن، فبينما يُنكر الخوارج وجود “حد الرجم” لأنه يستند على حديث آحاد فإن “داعش” يتبنى الموقف السلفي وقد قام برجم العديد من الأشخاص في أماكن سيطرته في سوريا.
وكذلك فإن الخوارج، شأنهم شأن المعتزلة، يقولون “بخلق القرآن”، وهو الأمر الذي يخالفه “داعش” ويخالفه الفكر السلفي. وهم أيضا يقولون بكفر مرتكب الكبيرة بعكس تنظيم “داعش” والوهابيين الذين لا يرون مرتكب الكبيرة كافرا.
ومن ناحية أخرى، فإنه لا يستطيع باحث جاد النظر في المنهج وطرائق التفكير والمصادر التي تقوم عليها المدرسة السلفية الوهابية دون أن يجد رابطا وثيقا بينها والسلوك الاقصائي والعنف والتكفير الذي يتصَّف به داعش.
صحيح أن موجة انتشار الجماعات التكفيرية العنيفة الأخيرة قد بدأت من مصر في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي بتأثير مباشر من أفكار “سيد قطب” التي كانت بدورها تطويرا لأفكار “أبو الأعلى المودودي”، ولكن الصحيح أيضا أن الأخير تأثر كثيرا بدعوة محمد بن عبد الوهاب.
وعندما يقول البعض إن المجرى العام للدعوة السلفية يرفض التكفير، ويُناهض استخدام العنف ضد غير المسلمين، فإنهم إنما ينظرون للحقيقة بنصف عين، إذ أن المصادر التي يستقي منها الوهابيون والتكفيريون أفكارهم، هي مصادر مشتركة، وهم كذلك يتفقون في الكيفية التي تتم بها قراءة النصوص (الفهم الحرفي)، وبذلك يُصبح الاختلاف بينهم اختلافا في الدرجة وليس في النوع.
إن الناظر إلى الخلفية الفكرية لغالبية المنضمين تحت لواء “داعش” والشيوخ الذين يقفون خلفهم يجدهم قد نهلوا من فتاوى بن تيمية، وكتابات تلميذه ابن القيم الجوزية، إضافة لتعاليم محمد بن عبد الوهاب.
أما التجربة العملية فإنها تُحدثنا عن جنود الملك عبد العزيز بن سعود المعروفون باسم “الإخوان”، والذين كانوا من أكثر الناس إخلاصا لتعاليم محمد بن عبد الوهاب، وعن طريقهم استطاع الملك الراحل بسط سلطانه على نجد والحجاز وتأسيس المملكة الحالية.
لم يكن الإخوان يختلفون كثيرا عن “داعش”، فقد كانوا شديدي الكراهية لغير المسلمين، الذين درجوا على تسميتهم جميعا بالكفار، ولم يكونوا يحتملون وجودهم في الجزيرة العربية. قد نشأ الإخوان وتربوا على عقيدة “الولاء والبراء” التي تُقسِّم العالم إلى فسطاطين: الكفر والإيمان، وهي نفس العقيدة التي يتربى عليها السلفيون اليوم بمختلف أطيافهم، ومنها ينهل الشباب الذي يذهب لينضم لـ”داعش”.
كان الإخوان جنودا مخلصين لفكرتهم التطهرية، متعطشين للدماء ومستعدين دوما للموت، ومُعادين لجميع مظاهر الحياة المدنية الحديثة مثل التلفون والسيارة والمذياع باعتبارها بدعا لا يجوز استخدامها!
كانوا أيضا لا يعترفون بأي فكر أو تصور للإسلام يخالف الوهابية، وعلى رأس ذلك التصوف وأهله حيث فعلوا فيهم الأفاعيل. كان هدفهم هو إدخال جميع المناطق العربية في اسلامهم رغم أن أهلها مسلمون موحدون، وكان أحد أسباب خلافهم مع الملك عبد العزيز هو رفضه مواصلة الحروب لإخضاع سوريا والعراق والأردن لسلطانه وإدخال أهلها تحت سلطان العقيدة الوهابية.
وأخيرا ندلل على طرحنا هذا بالاعتراف النادر الذي جاء قبل عدة سنوات على لسان إمام الحرم المكي السابق والداعية السلفي المعروف، عادل بن سالم الكلباني، حين قال: “داعش نبتة سلفية حقيقية يجب أن نواجهها بكل شفافية”، كما طالب بمراجعة جريئة وشجاعة للفكر الوهابي كي يكون المتدين السلفي أكثر تسامحا وواقعية.
الحرة