تمكنت اسرائيل من الحصول ميدانياً على مساحة تفوق ما حدده قرار التقسيم الشهير 1947، والمفارقة أن المستوطنات اليهودية التي شكلت نواة الوجود الإسرائيلي تركزت في مناطق غير (توراتية)، فالوجود اليهودي كان متركزاً في المنطقة الحالية التي تعرف بالضفة الغربية، إلا أن المشروع الاستعماري كان يرى ضرورة أن يتواجد على سواحل المتوسط، باستثناء غزة!
تقول الأسطورة التوراتية بأن شمشون أو المعادل اليهودي لهرقل تعرض للإذلال في غزة وتعرض لعبودية مريرة جعلته يهدم المعبد على رأسه وعلى أعدائه، ومن المحتمل أن أثراً لهذه الأسطورة كان متبقياً لدى الجانب الإسرائيلي وهو يتخلص من غزة، إلا أن العوامل المعقولة للتخلي على شريط ساحلي مرتفع الثمن قياساً بالرؤية الغربية النابليونية لمنطقة المشرق (الليفانت)، هي الرغبة في الإزاحة السكانية إلى منطقة يسهل محاصرتها، ففي حالة حدوث لجوء فلسطيني إلى سيناء لتحملت اسرائيل أعباء هائلة لضبط خطوط واسعة من المواجهة في مناطق صحراوية وجبلية وعرية، فغزة المرهقة سكانياً قياساً بمناطق فلسطينية أخرى تحولت إلى سجن كبير بمزيد من السكان وكثير من العزلة.
التواجد المصري في غزة ألقى بقبضة ثقيلة على القطاع ضمن منهج السيطرة الكامل الذي يفضله المصريون، وبعد نكسة حزيران وجد القطاع نفسه في مزيد من العزلة ودون وجود بنية مؤسسية يمكن أن تفعل أدوار المجتمع الغزي بنفس الصورة القائمة في الضفة الغربية التي أصبحت جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية وحظيت ببوابة واسعة معقولة على العالم.
كانت غزة في هذه المرحلة مختبراً اسرائيلياً لتجريب تمييع الهوية الفلسطينية، وكان البحث عن بديل للتوجه القومي واليساري في الثورة الفلسطينية شاغلاً اسرائيلياً أساسياً بعد النكسة، ومع ذلك، فإنه من المستبعد ايجاد علاقة مباشرة لإسرائيل بتأسيس حماس أو الجماعات الإسلامية الأخرى، ولكن لا شيء ينفي بالطبع أن اسرائيل غضت النظر عن حالة المزاحمة التي ترافقت مع صعود حماس في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وبتحول منظمة التحرير الفلسطينية إلى عبء تتقاذفه الدول العربية بعد حرب الخليج الثانية، وجدت حماس فرصة لأن تحصل على تواجد كبير في الشارع الغزي بشكل خاص، وبنسب بطالة مرتفعة، ووجود تمويل من المتعاطفين مع التيارات الإسلامية من باب التعبير عن البراءة من الذنب الذي تشهده المساجد بعد انحسار موجة التبرعات الجزيلة لمجاهدي أفغانستان، وكان من السذاجة أن يعتبر الإسلاميون تكرار تجربة أفغانستان في فلسطين ممكناً لأن الأفغان كانوا يحاربون بمساندة أمريكية – غربية كبيرة.
أسهمت دول الخليج العربية بشكل أو بآخر في تغذية صعود حماس، لأنها المدخل الذي بقي مفتوحاً أمامها بعد أن ارتكبت منظمة التحرير الفلسطينية في موقفها من الغزو العراقي للكويت، ولأن التعامل مع اليسار الفلسطيني لم يكن وارداً، فاليسار كان ينظر للخليج بوصفه تمثيلاً للرجعية، ولم يدرك الخليج أن مشكلة غزة تعتبر تنموية في أساسها، وأن الشراهة للسيولة في ظل اقتصاد متهالك ستجعل حماس تتطلع دائماً لتغطية تكاليفها من خلال التسوق المستمر بين القوى التي تود أن تكتسب وزناً كبيراً من سخونة القطاع وقدرته على لفت النظر من وقت لآخر.
اتفاقية السلام وبعدها الانسحاب الاسرائيلي من القطاع جعلت حماس تعيد النظر في موقفها من المشاركة في السلطة، ولذلك ذهبت للانتخابات وحدثت المفاجأة التي لم تتوقعها حماس باستحواذها على السلطة، واضطرت إلى التعامل مع واقع جديد يتطلب تأسيس دولة حقيقية، وهو الأمر الذي لم يكن لحماس أن تتقبله بسهولة لأن ذلك سيعني حداً أدنى من الشفافية في عملها داخل القطاع، وسينفي أسباب التدفق المالي للقطاع، ومع أن حماس كان يمكنها أن تتعامل بمسؤولية مع الواقع القائم داخل السلطة الوطنية كاملة، إلا أن التحديات الكبيرة ووجود جزء كبير من تمويل السلطة قادماً من الغرب، جعل حركة حماس تجري عملية حسابية بسيطة وجدت أن القطاع هو المنطقة التي تستطيع أن تسيطر عليها وأن تطبق نفس السياسة من خلال استثمار حالة السخونة القائمة داخل القطاع، واستجابت حماس للورطة التي أعدتها حركة فتح بكثير من السعادة والغبطة.
تفتقد غزة إلى بنية تحتية لائقة، وذلك يجعل معبرها في رفح الحبل السري لاستمرار الحياة في القطاع، ولكن الحركة لم تسعى إلى الإبقاء على المعبر مفتوحاً بصورة طبيعية لأنها ببساطة كانت تمدد مستعمرات من الأنفاق تقوم على إدارتها لتصل أساسيات الحياة لأهالي القطاع بتكلفة عالية تذهب فروقها إلى القائمين على الأنفاق الذين يتحكمون بالاقتصاد السري للحركة، وبقيت الحركة تحتكر أوجه المعيشة التي وجههتها إلى عناصرها المقربين بدعوى أنهم يضطلعون بعملية المقاومة التي كان يفترض انتفاء مبرراتها مع الإنسحاب الرئيسي من القطاع، أما عملية تحرير فلسطين فلا يمكن أن تتساوق مع الخطاب السياسي لحماس الذي يفترض أن قبولها للدخول في السلطة كان اعترافاً صريحاً لا يقبل التأويل للسلام على أساس دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة سنة 1967، والمفارقة أن حماس تدفع بين وقت وآخر بعدم اعترافها بإسرائيل بينما أتى مأزقها الحالي أساساً من المشاركة في سلطة تقوم على أساس اتفاقية أوسلو وتتبنى نهجها.
يتشكل قوام حماس الرئيسي من شباب الجيل الضائع في غزة، ومن فئات ليس لديها ما تخسره من جموع الغزيين، فبينما يدفع أهالي القطاع بشكل عام تكلفة مغامرات حماس فإن العوائد تبقى منحصرة في الحلقة الضيقة من رجال التنظيم ومصلحتهم المرتبطة بالوضع الساخن في غزة، وفي ظل تغيب أية فكرة حول ما الذي يمكنه أن تقدمه حماس في إطار عملية السلام، فإن الاستمرار في عملية الاختطاف القائمة للقطاع وتعطيل أية حلول محتملة يضمن على الأقل استمرار الحركة وقدرتها على استقطاب المساعدات التي تتدفق في مقابل مواقف سياسية صاخبة تتبناها من وقت لآخر، في ظل مرونة كبيرة للانتقال بين معسكر إلى آخر، والإبقاء على الخيوط الممتدة بين المحاور المختلفة.
قدرة حماس على التلون للبقاء في السلطة استوعبت يافطات التأييد للرئيس السيسي في شوارع القطاع، وفي الوقت ذاته، تستمر على الموجة القطرية لبناء مدخل للتفاهم مع اسرائيل برعاية الدوحة، وهو ما يعتبر أوسع حركة مناورة سياسية انتهازية في المنطقة، وإن كانت هذه الأكروبات السياسية تضمن لحماس شهور أو سنوات إضافية إلا أنها تسرق من أرصدة الفرص الضائعة أمام أجيال كاملة من الغزيين المزيد والمزيد في عملية الاختطاف الواسعة التي يخضع لها القطاع.