إياد العنبر
احتفل العراقيون، في السنتين الماضيتين، بعيد رأس السنة الميلادية بطريقة مختلفة عن الأعوام الماضية. ففي نهاية عام 2017 كانت مظاهر الاحتفالات تملأ الشوارع والمدن العراقية، وحملت رسالة تحمل انتصار ثقافة الحياة في مقابل ثقافة الموت التي كان يسعى لنشرها تنظيم “داعش” الإرهابي بعد سيطرته على ثلثي الأراضي العراقية.
وفي نهاية عام 2018 تزايدت مظاهر الاحتفال، واعتبرها الكثيرون رسالة تحدّ ضد الآراء التي حرّمت أو استهجنت الاحتفالات بهذه المناسبة. ففي الأيام الأخيرة من عام 2018 ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بسجالات أثارتها تصريحات الشيخ مهدي الصميدعي مفتي جمهورية العراق، والسيد علاء الموسوي رئيس ديوان الوقف الشيعي، والتي عَدّت الاحتفال بأعياد الميلاد مناسبة للفسق والفجور ومشاركة المسيحيين بعقيدتهم التي تختلف مع عقيدة التوحيد عند المسلمين.
اعتبر الصميدعي المناسبة تأييدا للنصارى، بمعنى “تأييدهم بأن عيسى ابن الله، وهذه الحقيقة التي يجب أن يعرفها كلّ مسلم، بمعنى أنت إذا مُتّ ـ الكلام للصميدعي ـ تموت مشركا، وتعتقد بأن الله لهُ ولد…”.
أما الموسوي فبعد اعتباره المناسبة تقليد روماني ولا علاقة له بالديانة المسيحية، عَدّ الاحتفال برأس السنة “بأنها ليست أكثر من ذريعة لممارسة الفساد”.
المشكلة الرئيسية في هذه التصريحات، تكمن في عدم ملاءمتها مع الظرفية الراهنة. فهي تتحدث من منظور عقائدي، كما صرح بذلك الشيخ الصميدعي. ومنظور أخلاقي، كما يرى السيد علاء الموسوي. والسؤال الذي يطرح هنا: ما هي الجدوى من الفتوى أو الرأي الديني في مثل هذه المناسبة؟ إذ أن طرح مثل هذه الفتاوى، يشابه إلى حد كبير الفتاوى التي أطلقها فقهاء في بدايات القرن العشرين، والتي كانت ترى حرمة الذهاب إلى المدرسة أو تعليم الفتيات… إلخ، وهي فتاوى قد أصبحت موضعا للسخرية والتندر.
ففي بلد مثل العراق الذي يعاني من فساد الطبقة السياسية في ظل انتشار وهيمنة أحزاب الإسلام السياسي، يجب أن تكون الأولويات التي تحظى باهتمام علماء الدين ـ تماشيا مع رفضهم لوصف رجال الدين ـ إصدار الفتاوى التي تحارب الفساد على حساب المال العام، وتسعى لمعالجة تدني مستوى الخدمات العامة، وارتفاع معدلات البطالة التي تعد من أهم مغذيات التطرف والإرهاب.
وإذا كان الخلاف العقائدي هو الدافع لرأي الشيخ الصميدعي، فالواقع العراقي لا يتحمل هذا الخلاف العقائدي؛ لأن التعامل معه من منظور الفكر الديني القائم على ركيزتَين: “الحقيقة المطلقة، والاصطفائية” يعد تهديدا خطيرا للتعايش السلمي في بلد متعدد الديانات والمذاهب، فمرتكزات الفكر الديني جرى على أساسها تبرير السلوك الإجرامي لأفعال “داعش” من سبي وقتل وتهجير لأتباع الديانات والمذاهب الأخرى.
وإذا كان الدافع الأخلاقي لرفض الاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية من قبل السيد علاء الموسوي، فهو أيضا مردود عليه؛ فجردة حساب بسيطة لعدد العراقيين الذين غادروا العراق نحو بلدان أخرى للاحتفال ليس بالعدد القليل. لا سيما أن هناك تقارير تلفزيونية تؤكد سفر الكثير من السياسيين مع عوائلهم للاحتفال في بلدان أوروبية أو مجاورة للعراق!
ومن ثم الحديث عن مظاهر الفسق والفجور التي ترافق الاحتفالات يبدو أنه يقتصر على العراقيين الذين يبحثون عن فرصة للتعبير عن فرحهم، وإعلاء أصوات الفرح بعد أن خيمت على حياتهم أصوات طبول الحرب وتباعتها.
من زاوية أخرى، الفتاوى أو الرأي الديني بشأن تحريم الاحتفال برأس السنة الميلادية، ينتمي إلى دائرة الفقه التقليدي في تعاطيه مع الواقع والمستحدثات! في حين يهتم الفقه المعاصر في اختبار الانعكاس المترتب على الفتوى، وتحديدا الاستجابة لموضوعها من قبل الجمهور. لذلك، نجد الكثير من الفقهاء، على الرغم من كثرة الاستفتاءات بشأن موضوع أو حادثة معينة، لا نجد إجابة قطعية صريحة.
فضلا عن ذلك، تحريم الاحتفال بمناسبة تحظى باعتراف الدولة، وتعدها عطلة رسمية، يجعل من موضوع الرأي الديني محل خلاف مع منطق الدولة. فالفتوى لا تتلاءم مع منطق الدولة الحديثة، وإنما تلائم منطق الدولة الدينية أو الدولة السلطانية التي باتت من التراث، ولا تحظى بمصادق لها على أرض الواقع في عالمنا المعاصر.
الإشكالية الأهم التي طرحتها فتاوى تحريم الاحتفال برأس السنة الميلادية، هي إشكالية العلاقة بين الدين والدولة. فنموذج نظام الحكم في العراق لا يزال يدور في دائرة جدل مغلقة بشأن هذه العلاقة.
فالدستور العراقي في (المادة 2 ـ أولا) عَدّ الإسلام دين الدولة الرسمي، ومصدر أساس للتشريع، وتأسيسا على ذلك لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام، وكذلك لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
وهو ما جعل موضوع الفتوى، في الأعم الأغلب، يأخذ طابعا سجاليا بين من يحاول أن يشيطن من يقدمون أنفسهم كعلمانيين وآخرين يحاولون إبعاد شبهة التطرف وإقصاء الآخر عن الخطاب الديني.
وفي كلا الحالتين كان سجالا استعراضيا وتصفية حسابات بين الفريقين أكثر من كونه محاولة لتأسيس حدود فاصلة بين الدين والمجال العام. فالخطاب النقدي للفتوى أو الرأي التحريمي للاحتفال بأعياد الميلاد أو رأس السنة الميلادية صدر من شخصيتين تعملان بعناوين رسمية داخل مؤسسات الدولة. فالشيخ الصميدعي هو مفتي جمهورية العراق، والسيد علاء الموسوي هو رئيس ديوان الوقف الشيعي.
وعليه، الدعوة لمحاسبتهم، بشأن تصريحات قد تهدد العلاقة بين مكونات المجتمع الدينية، هي مسؤولية الدولة، والحد من هذه الظاهرة يكون عبر اللجوء إلى القضاء وليس في مواقف استعراضية على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأخيرا، اعتقد أن الحضور الديني في المجال العام في المجتمع العراقي، حضور قوي وفاعل. ويجب أن يتحول هذا الحضور من دائرة الفتاوى المتعلقة بالحلال والحرام، إلى دائرة ترسيخ القيم الدينية التي تتحول إلى منظومة أخلاقية ترتبط بسلوك ووعي المجتمع. وهذه الدائرة أكثر اتساعا من تأثير نتاجات الفقه التقليدي. والتأثير في المجتمع يأتي من خلال ترسيخ منظومة القيم التي تؤسس لتشريعات وقوانين.
فالعلاقة بين الدولة والمجتمع ـ كما يرى علماء الاجتماع السياسي ـ تشتغل من خلال الأخذ بالاعتبار أن أي إلزام من أي نوع، سواء صدر عن أساس أخلاقي أو قانوني، لا ينفذ إلا إذا حظي بقبول الأفراد، بشكل مباشر أو في إطار القانون الذي قبله سلفا. وكذلك، إن تسليم الأفراد بالقيم، هو الذي يضفي عليها سلطة، أو يجعلها مبررا لسلطة تتيح فرض إلزامات.
الحرة