مصطفى زين
تشير تقارير وتحليلات كثيرة إلى أن قرار سحب الجنود الأميركيين من سورية فاجأ الحلفاء، ولم يكن يعلم به القادة العسكريون ولا وزير الدفاع جيمس ماتيس (الكلب المسعور) الذي استقال احتجاجاً. ويبالغ بعضهم مؤكداً أن الإنسحاب جاء نتيجة طبيعية للهزيمة الأميركية. لكن نظرة مدققة إلى تطور الحروب في سورية وعليها تؤكد أن الأميركيين لن يتركوا فراغاً في المناطق التي ينسحبون منها، بل هم يغيرون خططهم التكتيكية مع المحافظة على هدفهم الاستراتيجي في بلاد الشام والعراق. وهو هدف قديم عملت لتحقيققه مختلف الإدارات المتعاقبة، خصوصاً بعد انهيار حكم الشاه في إيران، وتوجه طهران إلى تشكيل محور معاد للولايات المتحدة.
يتلخص هذا الهدف في منع اي تواصل بين العراق وسورية، خصوصاً مع سعي الطرفين إلى التحالف مع إيران، ومن بعدها روسيا، كما هو حاصل الآن، يضاف إلى ذلك أن هذا التحالف الذي ما زال في طور البناء يلقى دعماً صينياً واضحاً، وتكريسه يقلب كل المعادلات الدولية العسكرية والسياسية والإقتصادية رأساً على عقب، ويؤسس لبناء نظام دولي جديد تتعاون موسكو وبكين لإنشائه وتطلقان عليه اسم النظام المتعدد الأقطاب.
لا شك أن ترامب يدرك هذا الواقع جيداً، سواء بحسه التجاري أو من خلال مستشاريه الكثيرين. لذا يمكن القول إن قراره الإنسحاب من سورية جاء بالتنسيق مع «الحلفاء» في المنطقة، خصوصاً مع تركيا، وكان الرجل واضحاً عندما قال لأردوغان أنه سيترك الأمر له. وترك الأمر لا يعني التخلي عن هذا الحليف، بل يشير إلى تنسيق كامل لضمان انسحاب آمن ولملء الفراغ في شرق الفرات وطمأنة إسرائيل، وهذا من أهم أولويات الإدارات الأميركية المتعاقبة، ولم تكن زيارة بومبيو تل أبيب، بعد اتخاذ قرار الإنسحاب مباشرة، ولقاؤه نتنياهو إلا لهذا الغرض. ويؤكد ترحيب أردوغان بالخطوة الأميركية وإعلان نيته إرسال جيشه إلى شرق الفرات أن التنسيق بين واشنطن وأنقرة كان وما زال قائماً على مختلف المستويات العسكرية والسياسية، وأن الأكراد الذين وضعوا أنفسهم في خدمة المصالح الأميركية دفعوا وسيدفعون ثمن تخليهم عن سوريتهم.
ولن تكون تركيا وحدها من سيملأ الفراغ في شرق الفرات، فالقوات الأميركية المنسحبة من سورية ستعزز وجودها في العراق وتترك «داعش» يتحرك بحرية على جانبي الحدود بين البلدين، ومن الملاحظ أن التنظيم زاد هجماته في الآونة الأخيرة تحت نظر الأميركيين وبدعم منهم.
فضلاً عن «داعش» فإن التنظيمات المسلحة الأخرى مثل «فتح الشام/ النصرة» و»الجيش الحر» و «حركة تحرير الشام» و»الجبهة الوطنية» و»المجلس الإسلامي السوري» التي تخوض معارك عنيفة في ما بينها للسيطرة على شرق الفرات كفيلة بإحداث الفوضى المطلوبة لعرقلة اي تسوية سياسية لا ترضى عنها واشنطن أو انقرة. كما أنها كفيلة بمنع اي تواصل عراقي – سوري – إيراني. وهذا هو الهدف الأميركي الرئيسي. كما أنه هدف تركي فأنقرة ليست مرتاحة إلى الوجود الإيراني في سورية إلا بما يخدم مصالحها ويتيح لها المشاركة في تقاسم النفوذ.
قرار ترامب الإنسحاب من سورية أعاد خلط الأوراق وأحيا آمال تركيا والمنظمات المسلحة في تعويض ما خسروه خلال السنتين الماضيتين، وأربك المخططات الروسية. كما أنه ترك كلفة الحروب، مادياً وبشرياً، على عاتق المتحاربين، أصدقاء كانوا أو مناهضين. وهو ليس أول رئيس أميركي يستخدم الحروب بالوكالة لتحقيق أهدافه فقد سبقه إلى ذلك رؤساء كثيرون. ونظرية القيادة من الخلف ليست غريبة على البيت الأبيض، فما زالت الحالة الليبية ماثلة أمام أعيننا.