أقلام مختارة

تعددت الرقصات والإحساس واحد (2)

منصور الحاج

منصور الحاج

تطرقت في الجزء الأول من هذا المقال إلى علاقتي بهواية الرقص التي بدأت مع رقصة “المزمار” الشهيرة في منطقة الحجاز بالسعودية ثم مع أندية الأحياء المحلية في تشاد التي تتنافس في تنظيم وإخراج حفلات الرقص.

ومع مرور الوقت، ولأنني كنت حينها أسعى للاندماج في المجتمع التشادي وإثبات انتمائي للثقافة المحلية عبر تعلم اللغة ومشاركة أقراني في أنشطتهم الاجتماعية والثقافية ومحاكات أذواقهم في الموضة والاهتمامات، تعرفت على العديد من الممارسات الاجتماعية هناك والتي يلعب فيها الرقص دورا أساسيا.

ومن بين أغرب تلك العادات عادة “الطعام اللذيذ”، إن صحت الترجمة، في ثقافة القبائل المنحدرة من إقليم كانم حيث من المعتاد إقامة حفل للامرأة التي يقترن زوجها بامرأة أخرى. ففي يوم زفافه، يقمن صديقات الزوجة “الحزينة” حفلا يطهين فيه “الطعام اللذيذ” ويرقصن فيه على أنغام الموسيقى لمواساتها وتخفيف وطأة الحدث عنها وللتأكيد على أن من حقها الاحتفال تماما كما يحتفل زوجها.

إن القواسم المشتركة بين تلك المناسبات وغيرها يتمثل في تمحورها حول الرقص والإحساس الذي يدخله في نفوس الراقصين على اختلاف الغايات التي من أجلها يقام الاحتفال بالإضافة إلى ارتباطها بالعادات الاجتماعية أو الطقوس التقليدية، كما هو الحال مع الهنود الحمر الذين يرقصون طلبا للمطر، وبعض الجماعات الصوفية التي يعبر دراويشها عن حبهم لمعبودهم بالرقص على قرع الطبول.

ومع تقدم المجتمعات البشرية تطور الرقص وأصبحت له مدارس ونوادي يرتادها محبو الرقص لممارسة هوايتهم دون الحاجة إلى مناسبة معينة. كما انتقلت بعض الرقصات من المحلية إلى العالمية وأصبح لها عشاق ومحبون حول العالم، كما هو الحال مع الهيب هوب والريجي والبالية والسالسا والتانغو والبشاتا والبريك دانس والزومبا والرقص الشرقي والزوك والكيزومبا والفلامنغو وغيرها.

وكمحب للرقص، الذي يعتبر من أقدم العادات التي يمارسها البشر للتحرر من الضغوط والأعباء اليومية، فإن الشعور الذي يتركه في دواخل النفس يجعلني أشجع كل من أعرف لتجريب ممارسة الرقص باستمرار وليس فقط في المناسبات الاجتماعية، لكونه مفيد للجسم في حرق السعرات الحرارية وتخفيف الوزن ويساعد أيضا في تنشيط الذاكرة وإشباع الجانب الروحي والعقلي والبدني في آن واحد.

وعلى الرغم من استمتاع غالبية الشعوب والمجتمعات بممارسة الرقص إلا أن الكثيرين يتحرجون من تحويله إلى هواية خاصة في المجتمعات المحافظة التي لم يتطور فيها هذا النوع من الفن ويتعرض القلائل الذين احترفوه أو حولوه إلى هواية إلى الاستهجان والتوبيخ والسخرية ونظرة المجتمع إليهم بدونية.

أما في المجتمعات التي تطور فيها الرقص، ففي الغالب يشكل الشعور بالخجل والاعتقاد بأن من الصعب تعلم الرقص حائلا دون إقبال الكثيرين على الرقص وتجربة تحويله إلى هواية. وكنت اعتقد بأن من المستحيل عليّ تعلم رقصة السالسا التي تعلق قلبي بها منذ اليوم الأول الذي شاهدت فيه الراقصين والراقصات وهم يؤدونها بسلاسة وانسياب في النادي الليلي الذي كنت أحرص على ارتياده أسبوعيا.

وفي ليلة من الليالي اقتربت من أحد الراقصين والذين كنت معجبا بأسلوبه في الرقص وسألته عن كيفية تعلم الرقصة التي لم أكن حينها أعرف حتى اسمها فاقترح عليّ حضور فصول تعليم رقصة السالسا لتعلم الأساسيات ثم تطوير القدرات عبر الممارسة والتدريب.

بعد أشهر من ذلك الموقف، بدأت في تعلم السالسا وكان أول درس تعلمته هو أن بإمكان أي شخص تعلم الرقص فهو بحسب تعبير المعلمة ليس أكثر من كونه سيرا إلى الأمام وإلى الخلف كما نفعل عادة حين نمشي وحين نخطو خطوات إلى الوراء بشكل تلقائي حين يقترب جسم ما نحونا.

والآن وبعد مرور أعوام على دخولي إلى عالم الرقص الذي غير حياتي وأضاف إليها سعادة وبهجة أجد نفسي حريص على الترويج لهواية الرقص وتشجيع أبنائي وأصدقائي ومعارفي وقرائي على تجربة تعلم أنواع مختلفة من الرقصات وممارستها باستمرار للترويح عن النفس وتنشيط العقل ورفع اللياقة البدنية للجسم.

لقد استفدت كثيرا من هواية الرقص وتعلمت عدة أمور عن الموسيقى والإيقاعات والطريقة الصحيحة لتحريك أجزاء معينة من الجسم بشكل متناغم مع الموسيقى كما تعرفت على ثقافات العديد من البلدان والمجتمعات والتقيت براقصين من عدة دول في المناسبات المختلفة التي تشتمل على حصص تدريب وعروض متنوعة لفرق الرقص المحلية والقادمة من أوروبا وأميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي.

لم أكن أتوقع في يوم من الأيام أن أكون من هواة الرقص الذي وجدت فيه لذة وحلاوة كحلاوة الإيمان لا يعلمها إلا من تشتبع قلبه بها ولذلك لا أملك إلا أن ألتمس العذر للناقمين والمحبطين الذين لو يعلمون ما في الرقص من بهجة وسعادة لسابقوني إلى صالات الرقص.

إن عالمنا المليء بالمآسي والآلام والأحزان والصراعات في حاجة ماسة إلى مادة الرقص لتضيف إلى حياة البؤساء قدرا من الأمل والحب والسعادة لمواجهة مصاعب الحياة، والإقبال على الدنيا بقلوب تطرب للألحان بدلا من أزيز الرصاص، وأجساد تتحرك على الايقاعات الموسيقية بتناغم وانسياب بدلا من التناحر والاقتتال.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق